Monday 13 November 2006

إشكاليـَّـات عصريــَّة في شــأن السـَّـواد المُقبــِل !

النُّباح عادَة أزليَّة من عاداتِ الكلاب !! , لم ينجح مَخلوق أو فَتْح عِلْمي بِعيْنِه في تغييرها , غير أنَّ حسَّان بن ثابِت يزعُم أنَّ آل شَماس قد فعلوا !! , إذ يقول واصفاً إياهم بألذّ حُجَّة و أذكى ُمبرِّرْ سِيِقَ بغرضِ المَدْح في الشِّعر العَربي :
يُغْشَونَ حتَّى ما تّهــِرُّ كِلابُهُم لا يَسألونَ عَن السَّوادِ المُقْبـِلِ !!
إذاً فكرَم هؤلاء القوم – لعَظَمتِه و نُدْرَتِه - قد جَعلَ كلابهم تُعيد النَّظر في أمرِ النُّباح باعتباره نِشاطاً مُرهِقاً تُجانبُـه أبجديَّات الحكمَة و المنطق , لأنها إن تمسَّكت بحقِّها في إظهار السَّائـِد و المُتنحِّي من صفاتها الوراثيّـَة ستظل في حالة نُباح دائم إلى ما شاء الله !! , فضيوف آل شماس لا تُوقفُهم شمسٌ حارقةٌ و لا تُثنيهم عتْمةُ ليل , مما أقنعَها بأن تُفضِّل السُّكوت على النُّباح في معيَّـة هؤلاء الأغراب الذين لا يكفُّون عن التَدَفُّق و التَجدُّد كمياه النهر !! . بل أنَّها قد ذهبتْ إلى أبعد من هذا و آثرتْ أن تزهَد حتَّى في الهَرْ الذي هو أضعف إيمانِها - كونه أقل بدرجات من النُّباح و أعلى بدرجة من الصَّمت - !! . إلى جانب ذلك فهم أيضا - أي آل شماس - لا يتَجشَّمون عَناء السؤال عن ماهيَّة أو هويَّة ذلك السَّواد باعتباره سيكون في الغالب عدد آخر من الضيوف الذين يَلُوحُون من على البعد على هيئة سواد متحرك يُعانق امتداد الأفق لكَثرتِهِم . لماذا لا يسألون ؟! لأن عندهم من المأكل و المشرب و المُتَّكأ ما يكفي تلك الجَحَافل و أضعافها و يزيد , فهم أسياد قوم و أثرياء بالضرورة !! . أما ذلك السَّواد - أو تلك الجحافل - فهي تتوجه صوب ديار آل شماس بحماس و ثقة لأن هذه الضيافة و تلكم الحفاوة هي أمر مألوف و محسوم لا يتطلَّب استئذاناً أو تنسيقاً مسبقاً , يكفي أن يلوح سوادُهم في الأفق حتى يصبح هؤلاء القوم على أهبة الإستعداد بكافة الخدمات و بمُنتَهى الحفاوة . لأجل هذا كان ذلك ( العَشَمْ ) الكبير و المتجدِّد في رحب و سعة كرم بني شماس له ما يبرِّرُه و يُمَنطـِقُ قُوَّتَــه !! .
و على الرَّغم من أنَّ قَفَزاتٍ حضاريَّةٍ كثيرةٍ قد تتابعت , و أعقبت تلك الأزمان و غيرت ما غيرت , و أبقت على ما أبقت من تلك الأعراف المثالية , إلا أن حكاية الضيف و المضيف قد ظلَّت تاريخية و ممتدة عبر الزمن , لكن آلية التعاطي معها هي مُبرِّر هذا الحديث !! , لأن الكثير من أعرافنا المُلزمة و تقاليدنا العَريقة قد خَفَتَ بريقُها , و تراجعت سَطوتُها أمام التزامات الحياة العصريَّة المعقَّدة , و اللُّهاث المحموم وراء لقمة العيش الذي يلازمه إحباط من قلَّة الدخل و قلَّة الحيلة . عادات كثيرة تغيرت فأصبح المرء لا يحسن إلا إلى من يعرف , و أصبح الإحسان إلى من لا تعرف صفة مرتبطة بشيخ أو ( مسيد ) أو ولى من أولياء الله الصالحين , بالطبع هنالك بعض من يفعل , لكن هؤلاء يوصفون بأنهم أهل الخير و الإحسان و يشار إليهم على أنهم صفوة , لأنهم يحرصون على مسلَّمات دينية و اجتماعية يفترض أن يحرص عليها معظم الناس على الأقل من وقت لآخر , كشهر الصوم الذي يفترض أن تكون الأبواب فيه - مواربة إن لم تكن - مفتوحة على مصراعيها في انتظار ضيف قد يأتي متعشماً في حفاوة تزكيها أجواء الشهر الكريم بلا سابق اتصال أو تنسيق , و لا أقول سواداً !! , فاليوم لا سواد مُقبِل أو مُدبِر إلا في المناسبات ذات الزوايا الحادَّة , - أي الأفراح الكبيرة أو الأحزان العظيمة - و كل من تُسَوِّلْ له نفسُه أن يفعل غير ذلك بلا تنسيق مُسبق متكئاً على ( العَشَمْ ) في حفاوة مُفتَرضَةٍ فهو من كَوكبٍ آخَر , أو من زِمنٍ آخَر , أو من أهل العَوَضْ !! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــلولة - أوراق جديدة - 2006

أحفـــاد الجرجون !

في إطار سردي يغلب عليه طابع المونولوج و يميل الى لغة المسرح .. مستخدمة كلتا يديها في عد الساعات و تعداد الخسائر روت لى صديقتي المعهودة قصتها السنوية المعتادة عن العطلة المهدرة و الأوقات (المسفوحة) – في هذا البلد - على مذبح ( المهلة ) و .. و ..
متسائلة بسخط درامي عن الزمن الذي سيصبح فيه سكان هذا البلد كباقي خلق الله الذين يقاسمونهم ذات الكوكب !!
بدوري أجبتها إجابتي السنوية المعهودة ..
( لن نصبح ابدا ً كباقي خلق الله الذين يقاسموننا ذات الكوكب لأننا نختلف عنهم في كوننا - ببساطة - من (سلالة الجرجون) .. بل نحن اجيال مطورة من تلك السلالة نجحت بفضل (التعبقر) و (التذاكي) في( تحريف ) كفاءة (اللعنة ) الشهيرة إياها .. لذا عوضاً عن تحويل الاشياء من حولنا الى حجر كما تقتضي الاسطورة ظللنا نتفنن في (تشيئ ) الزمن حتى حولناه الى صخرة عملاقة تجثم على أحلامنا في التمثل بباقي خلق الله ) !!
و لأننا قد نجحنا بكفاءة في تحجير الزمن فنحن قوم لا ( نهرع ) ابدا !! حتى ان هذا المعنى لا وجود له في قاموس تعاملنا و تحركاتنا اليومية ..
ففي السودان لا أحد ( يهرع ) .. الكل يمشى ببطء و على مهل و يتحرك بتثاقل و يومئ بتكاسل و يتثاءب بضجر و يضحك بخمول و كأن الدنيا بأسرها قد قطعت على نفسها عهداَ صارماً و مقدساً بتذليل أمورنا و تيسير شؤوننا بالإنابة عنا بينما نتفرغ نحن (أحفاد الجرجون) للتفنن في تحجير الساعات و تحويلها الى صخور جيرانيتية !!
و لعل من أشهر ادوات التحجير تلك و أكثرها تداولاً تلك المصطلحات المطاطية التى نستخدمها ليس في تسمية الاوقات فقط بل و في ضرب الواعيد ايضا ... في هذا البلد لا زال اليوم ينقسم فيما يتعلق بضرب المواعيد الى ( صباحية ) و ( ضحى ) و ( عصرية ) و ( مغربية ) و فترة ما بعد ( العشاء ) او ( العشاء ) لا فرق لان المصطلح في الأساس مطاط و حمال اوجه !!

و في هذا البلد لا يزال داء المهلة متفشيا حتى يكاد يفتك ببقية الامل الباقية في ان نصبح كبقية خلق الله الذين يشاطروننا ظهر البسيطة .. هناااك .. حيث لم يعد الجانب الخشن من المجتمع هو فقط من عليه ان يهرع و يهرول ولم تعد الانثى العصرية هي ذاتها التى (تمشى الهوينا كما يمشى الوجي الوحل ) و التى تغنى الشعراء بمشيتها الماهلة طويلا لا زال الناس هنا في شوارعنا يمشون كانهم يمشون بلاهدى ليس كان لكل منهم وجهة او مقصد يجب ان يبلغة في ساعة محددة لا يزال هذا يحدث بينما حتى الانثى يتوجب عليها ان تهرع بل و تهرول ان اقتضى الامر لانها لو استمرئت التصديق بانها (جنى الوزين) الذي (يمشى بمهلة ) ستظل هكذا الى ما شاء الله ..
الأمر الباعث على الدهشة و الاستياء في آن انه ما ان يجلس احدهم خلف عجلة القيادة حتى يتحول الشخص الذي يضرب المواعيد مستخدما ذات المصطلحات المطاطية كالضحى و العصرية والمغربية الى شخص يحسب اجزاء الثانية عند كل منعطف و يستكثر الصبر لثواني معدودة أمام الاشارة الحمراء !!
لست ادري هل هي ازدواجية معايير أم أننا في الواقع مدركون لماهية افعالنا لكننا نستمرئ المكابرة بالقاء اللوم على الآخر (جحيمنا المعتاد ) تماماً كما تفعل صديقتي التى تسير ببطء و تتحدث ببطء و تثرثر مطولا و بروقان بال قبل و أثناء و بعد اى نوع من انواع التعامل اليومي ابتداء من بائع الخضار و اللحم مرورا بموظفة البنك و انتهاء بعامل محطة الوقود ان امكن !!
لكنها تصر على المكابرة بالقاء اللوم على الآخرين في ممارسة نموذجية لجحيم سارتر .. صديقتي المعهودة تلك نظرت الى ساعتها التى كانت تشير الى الرابعة عصرا بمهلة و تثاءبت بحبور قبل ان تقول بابتسامة رائقة نتونس لينا ساعة كده وبعدين نمر ناس البكا العصرية كده !!
( عندما سئل البرتو مورافيا عن اجمل ساعات العمر قال بانها الساعات التى لا يشعر فيها بالزمن ) !! هل يعني ذلك بأننا في هذا البلد نعيش في سعادة أزلية على طريقة مورافيا ؟!!


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوراق جديدة - قيـلولة - 2006
سبتمبر - 2006 - صحيفة آخر لحظة

ثقافـــة أسيــاد الحــرب !

لا شك أن المتأمل في مناخاتنا السياسية قد لاحظ - دونما جهد يذكر - كيف تمخض أكثر من (سيل) عن جدب تحرسه بركة آسنه في الوقت الذي برهنت فيه سحائب الصيف – في غير مرة – على أنها قد تهطل غيثاً يروى الأشجار التي تبقى في كل الفصول !!
لكن يبدو أننا نفضل التعاطي مع الواقع بثقافة الحزبية و الطائفية التى تقدم الولاء للجماعة و التأليه للمتبوع على الولاء للأرض و الوطن !!
ربما لأننا قد أدمنَُا التفرج على لعبة الكراسي الأزلية تلك التى يتناوب فيها أسياد الحرب تقلد المقاعد الدافئة حتى بتنا لا نرضى بالسكون إلا إذا أنذرنا بعاصفة أخرى !!
و لأننا مشغولون دوماً بالتفرج على لعبة الكراسي إياها لم نتعلم ثقافة الإختلاف مع الآخر و لم نجد الوقت لنستوعب التفريق بين الوطن كأرض وانتماء و بين الحكومة كنظام يأتي و يذهب !!

إن الحلول الجذرية لأى مشكلة سياسية هى تلك التى تعكس حتمية الواقع في المقام الأول متماشيةً مع قسوته كيفما كانت لذا كانت القدرة على التصالح مع الأعراض الجانبية لتلك الحلول من أبجديات الوعى السياسي و من صميم الحس الوطني !!
أما التركيز على تزكية الأجواء التى تستمرئ اللطم و الرثاء و التبخيس ما أمكن عندما يكون الانجاز من صنع الآخر الذي نختلف معه و التهليل للإنجازات الصديقة و إن كانت مترعةً بالمثالب فهذا ما سيبقينا كما نحن نخرج من المآزق لنقع في الورطات !!
لكل قول صدى و لكل فعل عاقبة لأجل هذا يفكر المرء قليلاً قبل أن يقول و يتمهل كثيراً قبل أن يفعل لكن بعض الساسة و معظم المتسايسين عندنا إما أنهم قد أعفوا أنفسهم من عناء التفكير قبل القول و التمهل قبل الفعل أو أنهم بعد تفكير و حسابات خاطئة يخرجون بتصريحات و مواقف غير مسؤولة على الإطلاق تتعدى عواقبها الوخيمة الحكومة الى الوطن !!
وهذا يقودنا لسؤال .. إلى أى حد يمكن أن تصل حرية الإختلاف و عند أى حد يمكن أن تنتهي ؟! .. أم أنها حرية مطلقة و بامكان المخاصمة أن تصل حد التهور و الفجور ؟!
مسكين هذا البلد !!.. فبينما تحذر السلطات الصينية مواطنيها الذين يذهبون للسياحة في الخارج من (البصق) أثناء سيرهم في شوارع (الناس) و الذين يمتثلون بدورهم للتحذير من أجل تمثيل بلادهم بشكل لائق .. نتبارى نحن في (البصق) على المسلمات الوطنية و في تقديم الصور الأكثر سلبية و قتامة !!..
إنجازنا اليتيم في هذا الصدد هو نجاحنا في أن نقنن مفهوم الوطنية و نغدقه بسخاء على الفريق القومي لكرة القدم !!
حشر الأنوف الغريبة و المعقوفة ربما في شأن دارفور أمر غير قابل للهزل أو الإنتقام السياسي أو تصفية الحسابات هذا شأن وطني يعنينا نحن البسطاء و يؤثر فينا نحن العاديون أكثر من أى سياسي يطلق تصريحات لن تعود عواقبها عليه وحده ..
إن العشوائية في التعامل مع مسألة الولاء الوطني و الولاء السياسي هى آفة هذا البلد لذا أقترح أن يعكف خبراء مختصون من أبناء السودان البررة على وضع منهج في مادة التربية الوطنية يتميز بالدسامة و السلاسة في آن معاً لنخرج بأجيال قادمة تجيد التفريق بين مفهوم الدو لة و الوطن و لتكن المقررات من الدسامة بمكان بحيث يعشق أطفالنا السودان على طريقة (رانيا) صديقة طفولتي المصرية التى أعادتني الى البيت في آخر اليوم الدراسي باكية أنتحب من الغيظ و قلة الحيلة لأنها كانت تصر وباستماتة و بسالة – تحسد عليهما- على أن مصر هي أكبر الدول العربية مساحةً !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سبتمبر - 2006 - صحيفة آخر لحظة

قصـــَّة موت معلـــن !

لأستاذنا الكبير أنيس منصور تعليق في منتهى الذكاء و الطرافة على ما ذكره الكاتب
الأمريكي لويس ممفورد في كتابه (نشأة المدينة الحديثة ) من أنه قد قرأ قصص ( الديكاميرون ) لبوكاتشيو و هي عبارة عن مائة قصة قصيرة ترويها سبع نساء و ثلاثة رجال في عشرة أيام أمضوها في ضواحي نابلي هرباً من الطاعون و قد كان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر , و كل ما لاحظه ممفورد هو أن الناس في القرن الرابع عشر كانوا يهربون إلى الضواحي عندما يشعرون بالتعب !! .. و من هنا ظهرت ضرورة الضاحية بالنسبة لسكان المدن !! ..
يقول مُعلِّقــاً على ذلك .. أن هذا هو كل ما لفت نظره في المائة قصة التي تعتبر من أروع الأعمال الأدبية في العالم !! , و لعله أدرك أهمية هذا العمل الفني العظيم لكن انشغاله بالبحث عن نشأة الضواحي هو الذي جعله يرى فقط هذا الجانب , ( فكل إنسان له جانب خاص من العالم ينظر منه و ينظر إليه , و هو في نفس الوقت يجعلنا ننظر إليه من زاويته هو !! ) .. تذكرت تحليله الطريف و العميق هذا بعدما سمعت من زوجي قصة موت ذلك الشيخ البدوي العنيد (أبو سبيعان ) و التي أدهشتني كثيراً .. كان الرجل قد دخل عليه شاكياً من سعال شديد تبين أنه بسبب فشل في الجانب الأيسر من القلب , الأمر الذي استدعي تدخلاً جراحياً عاجلاً أجرى في أكبر مستشفيات الرياض بعد أن تم نقله إليها على وجه السرعة و عن طريق إخلاء جوى من إحدى مناطق الشمال النائية حيث كان يعيش متنقلاً بإبله و أغنامه !! , و ما أن تماثل للشفاء حتى عاد إليه شاكياً من كثرة الأدوية و ممتعضاً من كل هذا الإزعاج !! , و بعد أن عبر عن استياءه البالغ من الأطباء واصفاً إياهم فيما معناه بأنهم مجرد شرذمة بائسة تفتقر إلى المنطق , طلب منه بحزم أن يبارك عزمه و أن يعطيه ( خاطره ) في أن يذهب إلى معالج شعبي يدعى ( أبونايل ) ذائع الصيت في أوساط البدو لمهارته الفائقة في الكي و الحجامة !! ..
الأمر الباعث على الدهشة أن الرجل بعد أن استمع إلى شرح مفصل عن أهمية تلك الأدوية في المحافظة على نجاح الجراحة و خطورة التوقف عن تعاطيها على حياته قد ضرب بكل هذا عرض الحائط و قام بالتخلص منها في أقرب سلة مهملات في ذات المستشفى بعد أن فضَّل حجامة (أبو نايل ) على آراء كل أولئك الإختصاصيين المتحذلقين أصحاب البوردات و أعضاء الكليات الملكية !! .. فجاءت وفاته أمراً حتمياً و معلناً سلفاً من قبل أن يحين !!
أما لماذا تَذكَّرتُ تعليق أستاذنا أنيس منصور على موقف لويس ممفورد من قصص بوكاتشيو و حديثه عن أن لكل إنسان جانب خاص ينظر منه و ينظر إليه فلأنني قد قمت دونما وعي مني بإسقاط تحليله هذا على موقفينا أنا و زوجي من قصة الموت المعلن تلك.. فبينما كان أبناء الراحل و نساؤه و أحفاده يلقون باللائمة على غباء الأطباء كالمعتاد .. كنت أنا منهمكة في التفكير في طرافة المفارقة بين قصة الموت المعلن لبطل رائعة ( ما ركيز ) الذي قُتِلَ ظُلماً دونما جريرة و كانت جريمة مُجتمعِه هي الصمت و السلبيَّة و قصة موت الشيخ ( أبو سبيعان ) الذي ظَلَم نفسه و قَتَلَ نفسه على الرغم من استماتة مجتمعه و حكومته في تدليله !! .. أما زوجي فقد كان يقول مستخدماً كلتا يديه في عد الخسائر ..
إن هذا الرجل قد كلف الدولة مبالغ طائلة دون جدوى , إسعاف من المركز إلى المستشفى , و إقامة في العناية المركزة , و أدوية ثم إخلاء جوي إلى الرياض و جراحة عاجلة ثم أدوية مجانية تصرف له مدى الحياة و هو مجرد مواطن بسيط لا يملك أي تأمين صحي .. قال قولته هذه قبل أن يُردف مغتاظـــــاً ..
( و بعد ده كُلُّو يقول لي حجامة ) !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـلولة - مجلة أوراق جديدة - 2006
من المفكرة - صحيفة الخرطوم - 2006


المــرأة التـي أمسـكت بتلابيــبي !

نشرت بعض الصحف مؤخراً نبأً طريفاً مفادُه أن السلطات الصينية قد حذَّرت مواطنيها الذين يذهبون للسياحة في الخارج من البَصْق أثناء سيرهم في الشوارع في محاولة صارمة لتحسين صورة المواطن الصيني في الخارج !!
و الحقيقة أنني قد - توقفت منذ عهد ليس بقريب - عن الشعور بالدهشة إزاء كل ما يقوله أو يفعله أي مواطن صيني إبتداءاً من .. ( هو جنتــاو ) .. مروراً بـ .. ( يونغ تشانغ ) التي ألهبت روحي روايتها الهائلة ( بجعات بريَّة ) بذات القدر الذي صفعت به رصانَتي فبتُّ أثرثر عنها لكل من حولي .. و انتهاءاً بالسائح الذي تتوعده الحكومة بالويل و الثبور إن هو عاد إلى اقتراف البَصْق في شوارع ( الناس ) مجدداً !! ..
ليس لأنهم قد فقدوا بريقهم و توهجهم في هذا الصدد - لا سمح الله - أعنى مقدرتهم الفذة على إدهاش الآخر المغاير أينما و كيفما كان - فهم لا يفقدونها أبداً تحت أي ظرف , إنما العيب في شهيتي و قابليتي للإندهاش التي أفقدتني إياها رواية (يونغ تشانغ ) التوثيقيّة الملحميّة الضخمة التي أمسكت بتلابيبي على نحو لافت فظللت أتأرجح في قراءتها بين الشراهة في التهام بعض فصولها على طريقة أفراس النهر حيناً , و بين تذوق البعض الآخر و مضغه بهدوء و تكلُّف كونتيسات القرن التاسع عشر ً أحياناً أخرى !!
أما بعد فراغي من التدرج في كيفيَّة التهامها - أي في مرحلة التلمظ تحديداً - فقد داهمتني دفقة العذاب الشهيرة إياها التي تعقب قراءة النصوص الفذَّة .. عُشـَّاق القراءة يعرفونها جيداً !!
و لمن لم يصل إليها بعد , هي ذلك المزيج المتناغم بين الخدر اللذيذ و التحديق ببلاهة في الفراغ أمامك لفترة قد تطول أو تقصر , الأمر مرهون بتفاعلاتك الداخلية !!
دفقة العذاب الشهيرة تلك يتلاشى تأجُّجهَا تدريجيا و يَخفُتْ يوما بعد يوم إلى أن تُصبح مجرد ( قطعة مطرزة ) صغيرة و جميلة في قماش الذاكرة الناعم , نعود إلي استنهاضها كلما سنحت لذلك سانحة .. كسانحة السُيَّاح الآنفة الذكر !!
المرحلة التالية هي مرحلة الإلتفات أو (التَلفُّتْ ) على طريقة ( الشريف الرضي ) , حيث يتلفَّت قلبك صوب الكتاب بعد أن يأخذ مكانه بين الكتب الأخرى في مكتبتك كلما مررت من عنده (مُتلَكِّكَاً ) على طريقة مرور ( الشريف الرضي ) ذاتها , و قد تفعل ما فعلت أنا مع بجعات يونغ تشانغ بأن تدعو الله متظارفاً أن يمنحنك ذاكرة أخرى أو أن يُقرِضَك أحدُهم ذاكرته لا لشئ إلا لتعاود الإلتهام و .. التذوق و .. التلمظ و .. الإندهاش و من ثم الوصول إلى دفقة العذاب التى أسهبنا في وصف روعتها !!
أما لماذا أفقدتني تلك الرواية دهشتي إزاء كل فعل أو قول صيني فلأن يونغ تشانغ تلك الصينية ( الجريشية ) اللون – كما يحلو لي أن أتظارف بتلقيبها – و ( الجريش ) لمن لا يعرفه عصيدة سعودية لذيذة تصنع من حب القمح المجروش و الحليب أو اللبن , أستطيع أن أزعم أنه لا يوجد وصف يحاكي لون بشرة الصينين أكثر توفيقا من الجريش ( أنا في كل مرة أحاول و أعود للجريش ) !! - إن تلك الصينية الباسلة قد أبدعت في توثيق دراما واقعية لحياة نساء ثلاث - هُنَّ جدّتها و أمُّها و هيَ نفسُها - منذ عصر أسياد الحرب مروراً بعصر الإحتلالين الياباني و الروسي إلى حين إندلاع الحرب الأهلية بين الكومنتانغ و الشيوعيين و مجئ الثورة الثقافية و الحكم الشيوعي في ظل عهد ( ماو تسي ) بتمرحله و انعطافاته السياسية النَّزقة التي كان من أبرزها إدارة ظهره للروس و مولد الشيوعية الصفراء و من ثم انتهاءاً بموته !!
يونغ تشانغ - التي تعرض أبواها للقهر و النفي إلى معسكرات العمل البعيدة فجنَّ والدها و انطفأ تدريجيا إلى أن مات , أما هي و لما تبلغ العشرين فنفيت إلى أطراف جبال الهملايا - سطرت هذه الملحمة و نشرتها بعد خروجها من الصين في عام 1978م في كتاب ملئ بالغرائب و العجائب و الفظائع التي أرهقتني محاولات ابتلاعها .. كيف يمكن للمآسي الإنسانية أن تمتد عبر جيلين فأكثر في عائلة واحدة بكل هذا الزخم المؤثر ؟! و كيف يمكن لشعب واحد بل لجيل واحد أن يحتمل كل هذه التقلبات العنيفة والهزات الساحقة دون أن يفقد جلده ؟! .. و كيف يمكن لشعب أن يكون بهذه القوة و أن يملك تلك الإرادة الفولاذية التي جعلته يصهر الفولاذ نفسه يدوياً و بطريقة بدائية و مميتة ليصنع دولة قوية ؟! .. الشعب الذي يستطيع أن يحتمل كل هذه المآسي و الفظائع يستطيع ببساطة - و بكل سرور - أن يكف عن البَصْق في شوارع الآخرين من أجل تمثيل بلاده بشكل لائق !! .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــلولة - أوراق جديدة _ 2006

في الخلق و الإبداع !



مناخ الكتابة و الإبداع في السودان يشبه إلى حد كبير مناخ الإبداع في البلدان اللاتينية أو الكاريبيّة على وجه الخصوص , لكن مسألة الإنتشار هي نغمة الإختلاف في معزوفة التشابه تلك , على الرغم من كون هذا مجرد رأى شخصي إلا أنني - و لأسباب معقولة - أجد فيه قدرا لا بأس به من الموضوعية !
عندما نتأمل في روائع روائيين أفذاذ كـــــ ( ماركيز ) و ( جورج أمادو ) و ( إيزابيل الليندى) نجد أن مذاق و نكهة هذا النوع من الإبداع تعود لذات المناخ الإنساني المشابه و إن اختلفت الأمور ظاهريا , فالاختلاط العرقي المميز جداً لدى تلك الشعوب قد ترك بصمة واضحة في شخصياتهم و أنماط حياتهم و ثقافاتهم , بعض الكسل و حدة المزاج و الشعور العميق تجاه الأشياء الذي يصل لحد الإخلاص الأعمى لقيم الحب و الجمال , الطيبة الساطعة و التطرف في ردود الأفعال , كل هذا ربما منحهم إبداعاً مغايراً لا يشبه من حولهم , و بالتالي إذا أعدنا التأمل في المناخ الإجتماعي في السودان نجد أن الإختلاط العرقي بين العرب و الأفارقة قد أوجد مناخاً ثقافيا ً و إبداعياً له هويته و تميزه الخاص , هذه الخصوصية في جغرافية السودان الثقافية و العرقية قد أدت بدورها إلى خلق تلك الفجوة أو ذلك الجدار الذي يفصل بين المبدع السوداني و المتلقي العربي و الأفريقي !الوضع هنا شبيه بأغنية سودانية لا يطرب العرب كثيرا للحنها لأنها تنتمي إلى سلم موسيقى آخر غير الذي تعودوا عليه بينما لا يستطيع الأفارقة ترديدها لأن كلماتها باللغة العربية !
(خواكين مورييتا ) أشهر شخصيات ( إيزابيل الليندى ) و أحد أبطال رائعتها ( إبنة الحظ ) تلك الشخصية التي خصص لها ( بابلو نيرودا ) مسرحيته الشعرية الوحيدة ( تألق خواكين مورييتا و مصرعه ) هذا الـ .. (خواكين)
تحديداً سيكون مثالاً طريفاً لتعزيز وجهة نظري , ففي كل تفاصيله المفعمة و جموحه الصاخب ما هو إلا نسخة مقننة للشاب السوداني الثائر المثقف في عهد ليس ببعيد !
و نتيجة لإختلاف الثقافة السودانية ( العربــ أفريقية ) عن الثقافة في معظم البلدان العربية و الأفريقية فقد ظل المبدع السودانى محروماً من نعمة الإنتشار عربيا و أفريقيا و ظل بعض من لا تنطبق عليهم هذه القاعدة مجرد إستثناء آخر يؤكدها , و لعل الطيب صالح من أشهر تلك الاستثناءات باعتباره الروائي السودانى الوحيد الذي وصل إلى العالمية , غير أن الأمر الباعث على الإستياء هو أن تمجيد معظم العرب لأعماله هو في أغلب الأحوال إنعكاس لانتشار ها عالميا و احتفاء الآخر المغاير بها الأمر الذي يفسر كونه الروائي السوداني الوحيد تقريبا الذي يعرفه العرب جيداً ؟!
إبتداءاً بـ (بت المجذوب ) عجوز الطيب صالح الشهيرة مروراً بــ ( الزين ) و ( مريود ) وانتهاءاً بــ ( المنسي ) , كل هذه الشخصيات على الرغم من غرابة بعضها إلا أنها تمثل جزءا من واقع صورَّه الطيب صالح بعبقرية ليست محل جدال و نحن نفخر به كثيراً , لكن ... هذا البلد فيه مبدعون آخرون يتمنون أن يقولوا للعالم شيئا و يمكن أن يشكل إنتشارهم إضافة نوعية لأدب الرواية في العالم العربي و غيره ربما , لكنهم قابعون في غياهب التجاهل هؤلاء لم يحالفهم الحظ لتترجم أعمالهم إلى اللغة الإنجليزية !و الحقيقة أن القارئ العربى نفسه لا يعرفهم وليس لديه استعدادٌ كافٍ لذلك ,
لأجل هذا قد يكون كل ذلك التمجيد و الإحتفاء نعمة و نقمة في آن معاً في تقدير المبدع السودانى الذي يتمنى أن يقول للعالم شيئاً لكنه مكبل باحتكار الطيب صالح لفكرة الإبداع الروائي السودانى في ذهن القارئ العربي ! .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـــلولة - أوراق جديدة - 2006

صُنَّــاع الأمطــار !


(أوستن) الفقيه القانونى له نظرية قانونية شهيرة تسمى باسمه
Austen theory , تتضمن تعريفاً للقانون تقادم عليه الزمن لكنه لا يزال منطقياً و معاصراً , يقول أوستن ..
(law is a command which obliges a person or persons to
a course of conduct)
و على الرغم من أن الإلتزام الذي قصده أوستن هو إلتزام فردى أو جمعى تجاه أمر ملزم يتمثل في مجموعة القوانين التى تنظم سلوكياتنا العامة و معاملاتنا الرسمية , إلا أنه يبدو أن هنالك نظرية أخرى غير مكتوبة أو معرفة رسميا يجرى العمل بها , تلك النظرية مفادها أنه على القانونى أن يقوم بتطبيق نظرية أوستن في حياته الخاصة و معاملاته الشخصية !!
الراسخون في المهنة يعرفون أن صانع الأمطار هو لقب يطلق على محامى قضايا التعويض في أمريكا , لأنه يجني مبالغ طائلة لموكليه , أما غير الراسخين فيعرفون ذلك من رائعة الروائي جون جريشام الشهيرة (صانع الأمطار ) ! , و لأن التعويض في القانون الأمريكي كالبقدونس في المطاعم اللبنانية تجده في كل شئ , و عن كل شئ و خلف كل باب , و تحت كل حجر , فالمحامى هو صانع الأمطار - القوم مسرفون في ذلك تشجعهم قوانينهم التى تشوبها بعض الطرافة أحياناً ! - , فلا تندهش إذا قرأت في شريط الأخبار على قناة الـ ( CNN) أن نملة أمريكية عجوز قد قامت برفع دعوى قضائية في مواجهة مالك المنزل القديم الذي تقيم بين شقوق جدرانه التى تنضح بالرطوبة, مستندةً في دعواها على تقارير طبية تثبت إصابتها بداء المفاصل ! , و الكسب مضمون بفضل صانع الأمطار الذي لا يقهر ! , هؤلاء القوم أشقياء فعلاً , يشقون من حولهم و يشقون بهم !!
لكن ماذا تحت المظهر الخارجى لصنَّاع الأمطار ؟ ! ماذا عن الدواخل المفعمة ؟! , دراسة القانون تضع بصماتها على شخصيتك وتصرفاتك وطريقة تفكيرك ماحييت وهذا شئ لا تملك تغييره وإن حاولت , هذه البصمات قد تجعل منك في كثير من الأحيان شخصية مثيرة لاستياء من حولك .فصانع الأمطار شخص يجيد الإستماع لكنه نادرا ما يتدفق في الحديث عن نفسه , عملى جداً يوفر على نفسة مرارة الصفقات الخاسرة فلا ينظر إلى الخلف إلا بمقابل يشعره بالربح , عادةً لا يفهمه من حوله كثيراً , و حياته الخاصة في الغالب لا توازي في نجاحها حياته المهنية !لكنه مظلوم لأن شخصيته الحقيقية تذوب في الكاريزما المهنية لذلك تسمع دوماً من يردد أن كل المحامين هكذا , كلهم يقولون كذا , أو يفعلون كذا ,
أما أنا فأعتقد بأنهم كلهم يبدو عليهم أنهم هكذا !! فإن كنت من صناع الأمطار و حاول شريك حياتك استجوابك بطريقة غير مباشرة عن أمر ما , قد تدفعه إجاباتك الحذرة والمقتضبة إلى الشك في براءتك , فقط لأنك تجيب بحذر واقتضاب وهذا أمر لا تملك تغييره , فعقلك الباطن يتخذ دون أن تشعر موقفاً دفاعيا من كل شئ حتى أبسط الأشياء ! , فعلى سبيل المثال - كمواطن عادى - عندما تذهب لتناول وجبة في أحد المطاعم ستطلب قائمة الطعام و تقرأ الأصناف المكتوبة ثم تقرر ما تريد , لكنك لا تفكر أبداً بقراءة شئ آخر غير لائحة الطعام , هنالك جمل صغيرة تكون مكتوبة عن نسبة الضرائب أو مسئولية المطعم في حالة فقدان الزبائن لمعاطفهم التى يعلقونها في المشاجب المخصصة قبل جلوسهم لتناول الطعام ! ..... إلخ هل تشغل بالك ؟ , هل فكرت يوماً بتفحص وتقليب عقود الإذعان الجاهزة ؟ كفواتير الهاتف والكهرباء و قسائم الشراء مثلاً ؟ لا أعتقد أنك تفعل شيئاً سوى قراءة المبالغ المستحق دفعها و الأشياء المماثلة لكن المحامى غالباً ما يفعل ! , ماذا عن تلك اللافتات التى تكون معلقة في جدران غرف الفنادق؟ تجدها دوماً مكتوبة بخط دقيق داخل إطار أنيق؟ , أنت قد لا تلتفت إليها أما هو فقد يقف أمامها و لربما تأملها طويلا !
و هكذا يمضى صانع الأمطار في تضخيم انتصاراته المهنية بينما يظل يسوس شقاءه و أوجاعه بعيداً عن أقرب الآخرين , أولئك الآخرين الذين يطلقون النكات الطريفة عن جشعه و ماديته طوال الوقت و على ذكر النكات ,
هنالك نكته طريفة تقول إذا سألت شخصاً بسيطاً عن حاصل جمع 2+2 سيجيبك ببراءة أن الإجابة هى (4) , و إذا سألت اقتصاديا محنكا سيجيبك بأن الأمر يتوقف أو يعتمد على معطيات كثيرة ينبغى تحديدها أولا , أما لو وجهت السؤال الى أحد المحامين فستكون الإجابة ..كم تريدها أن تكون يا سيدى ! .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــلولة - أوراق جديدة - 2006

شيطان الشعر شخصية ديدنها النزاهة

الشعراء أشخاص إستثنائيون جداً , نزقون رُبَّما , ردودُ أفعالهم ذاتَ زوايا حادَّة رُبَّما
لكن هؤلاء القوم شاهقون بلا مراءْ , و هم أكثر المبدعين ثقةً بأنفسهم وتقديراً لحجم إبداعهم , متَّكئين في ذلك على عقود الإحتكار الأبديَّة التى وقَّعوها مع شيطان الشعر ! , فليس أيا كان مقدرٌ له أن يصبح شاعراً , الشعر كالغفران , شئٌ يُمنح لكنه لا يُشترى , يُوهب ولا يكفى أن يُطلب ! .. بَيْدَ أن الشاعر هو أول من يدفع ثمن تلك المَلَكَة الباهظة , و آخر من يجنى رَيْعها ! , لذا فقد درج الناس منذ الأزل على أن يقايضوا صبرهم على نَزَقْ الشعراء بتلك المتعة العظيمة , و ذاك الإنبهار اللَّطيف الذى يجدونه في تذوقهم للتراكيب والصور العميقة التي تشرح جراحهم و تُفنِّدُ دواخلهم المفعمة بالإنابة عنهم ! , إنها هيبة الشعر و عظمة الشاعر ! ,..
لكن المتشاعرين كُثُرْ , و قد كنت منهم على نحو ما قبل أن أكتشف أن عالم السرد
الجميل هو قدرى و ملاذي و هلاكى أيضاً إن أنا فرَّطت
في طفولتى كبعض الصغار المتحذلقين كنت أتَشاعَر بقصائد قصيرة جداً و ساذجة جداً تتحدث عن الأم التى تتفانى في إعداد الطعام , والأخ الذي لا يصغى إلى النصح , و الأشجار و الطيور و الألعاب التى تتكلم و تضحك و تتألم , و أذكر أننى كنت مفتونةً بكلمة (القوت) التى كنت أجدها بليغة جداً ! , فخصَّصت قصيدة كاملة تتحدث عن الأب و لقمة العيش التى يوفرها بعرقه لأطفاله الجياع في انتظار عودته من أجل تلك الكلمة البراقة ! .... إلى آخر تلك السذاجات الطفولية البريئة والجميلة ! .
ولا زلت أذكر قصيدتى عن أطفال الحجارة التى ألقيتها في فناء المدرسة بصوت مرتجف من هول الموقف المهيب , كانت تلك أول مرة أتحدث فيها أمام حشد من الناس و كدت أموت فَرَقاً و خجلاً , و لم أكن أعرف يومها أن مخاطبة الحشود بصوت واثق في قاعات المحاكم سيكون دأبى و مهتنى التى سأختارها بملء إرادتى لآكل منها عيشي !
قصيدتى تلك عن أطفال الحجارة عندما قرأها خالى رحمه الله و الذي كان يعمل وقتها في إحدى الصحف إقترح محاولة نشرها تشجيعاً لى , الأمر الذي أفرحنى كثيراً , لكنه بدَّد فرحتى بمهاتفتى بعدها ليسألنى بتشكُّك إن كنت أنا من كتبها فعلا , لا زلت أذكر الآن كيف آلمنى ذلك و كم شعرت بالمهانة فأجبته بحزم طفولىّ بأن ينسى أمرها إن كان لا يصدقنى !!
أما على أعتاب الأنوثة فقد اقترفت آخر محاولة فاشلة لكتابة قصيدة أذكر أن مطلعها كان ..
ليت انتظار الفجر
يسفر عن جديد
الفجر ليس القطر و الأنسام
والضوء الوليد
الفجر ليس نعاس أطفال المدارس
حين يتلون النشيد !!
إلى أن قلت ..
الفجر أن نصحو معاً
والليل أن نغفو معاً
نرسم للفجر الجديد!!
بعد كتابتها بدقائق فقط كنت أنا أول الساخرين من هذا الكلام و أول المستخفين به , أما الأسباب فقد كانت موضوعية جداً , و من
ضمنها على ما أذكر , أن أطفال المدارس لا يتلون النشيد المزعوم فى الفجر , وإنما يفعلون ذلك فى الصباح بعد شروق الشمس لأنهم مجرد أطفال وليسوا مجندين فى الجيش النازي ! , و حتى لو قمنا بتغييرها إلى الصبح ِعوَضاً عن الفجر بمعنى أن نقول ..( ليت انتظار الصبح يسفر عن جديد ) !ستواجهنا مشكلة أكثر فداحةً و هى أن الصبح لا يكون الضوء فيه وليداً , بل تكون الشمس فيه ساطعةً كحقيقة إسرائيل ! , وسطوعها بطبيعة الحال سيؤدى إلى تبخر القطر المزعوم , فلا يمكن أن نقول ..
( الصبح ليس القطر و الأنسام و الضوء الوليد ) ! ثم أنَّ النهاية سخيفة ومبتذلة .. يعنى .. قافية و السلام !!
وقتها كنت قد ودَّعتُ طفولتى كما ودَّعتُ التشاعر الى الأبد !!
فالمسألة في منتهى الصعوبة , وشيطان الشعر شخصية غاية في الحزم و النزاهة , و الأدهى و الأمَرّ أنه لا يعترف بالواسطة !
ثم أنه ليس أسوأ من التَّشاعر و الشعر الرَدئ , و عليه فإن الإقتصار على التّذوق هو الخيار الأذكى الأفضل !!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــــلولة - أوراق جديدة - 2006
صحيفة الخرطوم - 2006