Wednesday, 14 February 2007

الرجـــل الآخـــر !!


المُثقَّف السوداني ( مسكين ) إذ يقف في أحيانٍ كثيرةٍ مُشتتاً , ضائعاً بين مرجعيَّاتِه الثَّقافية و العِلميَّة و مَوروثاتِه التقليديَّة , تماماً كمن يؤدِّي دَور شخصيتين مُتناقضتين في مسرحيةٍ واحدة ! . فهو يقضي جٌلَّ وقته راكضاً بين خشبة المسرَح وغرفة الملابس ! , يُزيل مكياجاً و يضَعُ آخر , يخلعُ عباءة القيصر ليرتدي لِباسَ بروتُس و هكذا ... !! , حائراً بين ما يؤمن به و يُردِّدُه طوال الوقت و ما ترعْرعَ وشَبَّ عليه من أعرافٍ و أفكارٍ كثيراً ما تَقْفزُ إلى السَّطح عند أول اختبار حقيقي لأولويَّاته و مسلَّماتِه كرجل ! .
لذا فهو في الحقيقة شخصيَّةٌ بالغةُ التعقيد , وغالبا ما تُجانِبُهُ النَّزاهة مع ذاتِه قبل أُنْثَاه في تعريفه لمفهوم الأُنثَى الحُلُمْ !!
فاختيار الشريكة المُلائمة التى تَملأ روحَه و قلبَه و تَسرُّ عينَه بينما تُقنِعُ و تُرضِي عَقلَه أمرٌ جَلَل يتطلَّب موازنةً مُرهِقةً بين موروثاتِه وتقاليدِه تلك و ثقافتِه الحديثةِ و أفكارِه العصريَّة المنفلتَة !!
وفكرةُ الأنثى المثاليَّة في ذهنِه غالباً ما تتَمحور حول الإذعَان صراحةً أو ضمناً !! , بمعنى أن الجانب التقليدي في فكرِهِ يبلورُ هذا المعنى و يُسقطُه على الكثير من الصفات كالرِّقة و الحنان و الحَدْبِ , كل هذه الأمورتَجذُبه لأنها في ذهنه تُمثِّل صوراً مختلفةً لحقيقةٍ واحدةٍ هي إذعانُ الأنثى !!

أما الزواج فهو مِحْنَةُ المثقَّف السوداني الكبرى , هوامتحانُه التَّعجيزي , ففي سنة الزواج الأولى التى تُمثِّل باكورَةَ عهد المُكاشَفة , أى عهد سقوط أقنعةِ التَّجَمُّل حين يتحول الهمس إلى شَخير , و الإيماءاتِ المنمَّقة إلى إشاراتٍ عصبيةٍ , و الكلمات المنتقاة بعنايةٍ الى عبارات خرقاء , و الافكار الرومانسيَّة الخلاقة إلى آلية في نمط الحياة , أى عندما تبدأ بثور الاحتكاك بالظهور على قطيفة الرومانسية الناعمة , حينها لا تُصبح هنالك ضرورة للتفهُّم المُصطَنع أو الإدعاءات اللَّطيفة لاحتواء جموح الأنثى المُثقَّفة ... إلخ . عندها تبدأ رحلة الحيرة , فيركض المثقف المسكين إلى غرفة الملابس ليخلع عباءة القيصر و يرتدي ملابس بروتُس , فخلف القميص ( القيافة ) و ربطة العنق المنمَّقة و الحذاء الأنيق يقبَع رجلٌ آخر يتكرر ظهوره في المراحل المفصليَّة للعلاقة , و هو رجل تقليدي شديد التعنت كثير الإنتصار لرأيه , يرى في رومانسية أُنثَاه عدم واقعيَّة تثير غيظَه , و في حساسيتها المفرطة و رقَّتها تَصيُّداً وقِحَاً لاخطاءِه , و في آراءها الجامحة و الجريئة حول القضايا الإجتماعية الخلافية سباحة عكس تيَّار الأنوثة .
مشكلة الرجل المثقف عندنا أنه يعشق الأنثى الواعية المفكرة و يظل يحلم بها , و ما أن يجدها و يتعلق بها حتى يتعامل مع فكرها و ثقافتها بسياسة التعايش في مرحلة ما قبل التملُّك ! , و يبقى في صراع دائم مع ذاته , فيظل يردع فِكْرَهُ الذى يستهجن فِكْرَهَا , و يظل يَنْتَهِرُ الآخر الذي يختبئ في ثناياه مُتربِّصَاً إلى حين امتلاكها !! . أما النتيجة فأنه و بعد أن يستهلك شجرة ليمون عملاقة ليتغلب على غثيانه الرجولي إزاء جموحها العصري , و حتى يتمكن من ازدراد و من ثم هضم كل ما لا يروقه كرجل تقليدي من أفكار خطيرة تدور في رأسها الجميل , و بعد أن تصبح ملكه وحده يتحول - و هو معذور في هذا لأن الإنفجار هو النتيجة المنطقية للضغط المتواصل ! - إلى شخص قليل الصبر أمام استقلاليتها , عديم الاحتمال لجموحها الفكري , يضيق ذرعا بكل ما كان يدَّعى التعايش معه سابقا , أما الأدهى من ذلك فهو تأرجُحه المدهش بين محاولة السيطرة عليها من جهة و اختناقه من فكرة كونه فلَكَهَا الذي باتت تدور حوله من جهات أخرى !! .
في ساعات الشجار الزوجى الذي لا مفر منه يختفي القميص العصري و ربطة العنق المنمقة ليظهر الرجل الآخر متماهياً (بالعَرَّاقي) مُتَبجِّحَاً بموروثاتِه التقليدية التى كان يُكثرُ من شَجْبِها و التَّنديد بها في العهد القديم , ُملوِّحاً بين الفينة و الفينة بعصى قوامته التى َيهُشُّ بها على تَمرُّدِها و له فيها مآرب أُخرى !! . و هو إلى جانب هذا و على عكس نُظَرائِه من المثقفين في الأصقاع الأخرى رجل متطلِّب , كثير الشكوى فيما يختص بالجوانب التقليدية في الأنثى , فلا هو يريدها مثقفة مفكرة مستنيرة فقط , و لا هو يريدها أنثى تقليدية و كفى , بل يريدها أن تتشكل و تتلون وفق أحواله المزاجية , فتارةً مثقفة مفكرة , و تارة دمية جميلة فارغة ! , فما الحل إذاً ؟! .
العبء كلُّه - من وجهة نظره - يقع على أنثاه , فهي التى يتوجَّب عليها أن تجد الحل السحري لهكذا مُعضلة , بأن تتلون كأطياف قوس قزح و تتقلب كمناخ صحراوى متطرف , فَتَبُزَّ أُمَّهُ التي أنجبته في فنون الطبخ بدءاً بملاح الرُّوب و العصيدة و انتهاءاً بالمطبخ الصيني ! , بينما تتفوق على نجمات السينما أناقةً و رشاقةً و فتنة . تفعل كل هذا و هي تقرأ و تُحلِّل و تُناقش و تستنبط و تكتب و تؤرخ !! , ثم تعود لتَبُزَّ أولى حبيباته إلهاماً لقلَمِه و تحفيزاً لخفقات قلبه !! . عليها أن تكون كل نساء الأرض , و الويل كل الويل إن هى قصَّرَتْ ! . بقى الأهم و هو أن تعرف متى تكون هذه , و متى لا تكون تلك , أعَانَها الله و إيَّاه !! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـلولة - مجلة أوراق جديدة
فبراير - 2007