المُثقَّف عند " تشومسكي " هو من حَمَلَ الحقيقة في وجه القوة , و هو كما أرسَى " اميل زولا " : من يجتهد في إماطة اللِّثام عن أعتى الحقائق , و تَصِل شجاعتُه - في تحقيق ذلك - إلى أبعد مدى مُمكن , أى أن المثقف بعبارة أكثر محليَّةً و جمالاً هو: ( المَـابِقُودو زِمَـام , جَاموس الخَلا , الـ للرّجال كَـزَّام ) !! . مُعوِّلين على هذا , و على غيره أيضاً , تابعْنا مع آلاف من قراء الأسافير - سُجِّلتْ مشاهداتهم في أقل تقدير حتى لحظة كتابة هذا المقال بما يربو على الأربعة آلاف و خمسمائة مشاهَدة - جَدلاً مستفيضاً بين الروائي الحسن بكري الذي حَصَلت روايته (أحوال المحارب القديم ) على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأولى , و الروائي المُخْتَلف محسن خالد . و قد قرأ الكثير من المتابعين للحِراك الثقافي عن هذا في تقريرٍ كان أحد صحفيي جريدة الأضواء قد قام بالتَّنويه إلى نشره بالملحق الثقافي لها . من جهتنا كنا نقرأ و نناقش كل مداخلةٍ لأيٍّ منهما , و قد ظللنا نسعى مع آلاف آخرين بين منبر ( سودانيز أون لاين ) حيث يكتب محسن خالد و منبر (سودان فور أول) حيث يكتب الحسن بكري . "الماستر سين" في كل هذا هو أن الاستاذ الحسن بكري قد اتَّهَمَ مُحسناً بالسرقة , حيث قال بأن قصة محسن خالد "كلب السجان" هى تلخيص بائس لقصة جوزيف كونراد " قلب الظلام" ! , و قد طالَبَه محسن خالد - مع أيمانٍ مغلَّظةٍ نفى بها ذلك - باثبات زعمه هذا بدراسة . كنا نقرأ و نقرأ , و ندَّخر الحكم و التعليق إلى حين تَفنيد الروائي الحسن بكري لزعمِه بتلك الدراسة , لكنه رفض متعللاً بأنه لن يفعل ذلك "مهنضباً" من قبل محسن خالد . أى أنه قد ألقى بقنبلة اتهامه تلك , ثم أحجم عن سَـوْق الأدله مُتعلّلاً بالهنْضَبة !! .
الذي أقلقني هو موقف مُثقّفي جيل الرواد من كل هذا , و الذين يبدو أنهم على كثرتِهم يُعوِّلون كثيراً على جدوى دور الأيقونات الإلكترونية في مواقفهم الإسفيرية !! , فقد ركز (بعضهم) على شجب ألفاظ محسن الخارجة و التي لا تليق بحَرَم المنابر , دون أن يَتجشّم عناء ابداء كلمة حق , في أمر دماء النص التي سُفِكَت على مذبح العناد و الشَّخْصَنة , و دون أن يقوم بزيارة مماثلة للأستاذ الحسن بكري في عُقْر منبره , شاجباً اتهامه لكاتبٍ شاب يجدّ السير في دروب الخلق و الإبداع بسرقة إبداعه دونما دليل ! . هل هذا كثير ؟! , أم أنه ما من أمرٍ يستحق العناء ؟!
هل تَبنُّوا مواقف الايقونات الألكترونية تلك لآراءٍ سلبيةٍ يضمرونها , فيما يختص بجُرأة كتابات محسن خالد , الذي يعتبره بعض المبادرين بإطلاق الأحكام و الألقاب محمد شكري جديد ؟! , أم أن صَمتهم عن هذا قد كان لصداقة تربطهم بالحسن بكري , و هم يخشون عليها من التفسُّخ بفعل ألسنة النقد ؟! . هل هى اللامبالاة التي ظللنا نقابل بها خطورة دور تلك المنابر في الحراك الثقافي و السياسي ؟! , و عليه فلا ضير لأن حوارات إسفيرية كتلك لن تُدوّن في الأضابير ؟! . كان هذا ما أقلقني , أما الذي أحبطني فهو رد الأستاذ الحسن بكري , عندما أخبرتُه بالحقيقة العارية من المجاملة , بأن ذكَّرته - باتكاءة لطيفة على أبجديّةٍ منطقيّة - بحق الكاتب عليه في تفنيد اتهامه له بالسرقة , و بأن من حق القارئ عليه أن يعرف كيف و لماذا و على أى وجهٍ يراه سارقا ؟! , و أن ما قاله لم يكن في رسالة خاصة بينه و محسن حتى يتعلل بالهنضبة و ينتهي الأمر , بل هو اتهام علنى منشور و موثق . لكن ردّه جاء متعجرفا , يغلفه الغضب و تنقصه الموضوعية , و لا يليق بمثله , كان مزيجاً مدهشاً من خلط الأمور و تمييع للحقائق , أيضاً لم ينسَ اتهامي بعدم الإنصاف و الوقوف في صف محسن خالد الذي لا أعرفه إلا من خلال نصوصه , و الذي لم أبادله التحية يوماً . كما قال الأستاذ الحسن بكري بأنه لن يُضيّع عُمره في كتابة دراسات , فالبيت دافئ و الشمس رائعة في الخارج
, و كأننا لم نكن ننعُم ببيوتً دافئة و شموسٍ رائعة عندما تركنا كل شئ خلفنا , و اقتطعنا من أزماننا أوقاتاً لقراءة ما كان يكتب !!
الذي يستوجب الإحباط في كل هذا كثير , لكن من باب ترتيب أولويات العزاء , ما الذي يستوجب الحزن في المقام الأول ؟!
هل هو الحق الذي بات "يُحَنِّنُي " لأنه أضحى مسجوناً في قمقم الجهوية و العلاقات الشخصية ؟! , هل هى العشوائية و اللامبالاة التي تغلف مواقفنا عندما نكون بمنأى عن الضرر ؟! , هل هو دفء البيت و روعة الشمس اللذين ضيعت استمتاعي بهما و أنا أظن نفسي أفعل شيئاً ؟! . لست أدري !! , كل ما أدريه : أن الكاتب بمواقفه - أيَّاً كانت - يصنع تاريخه الخاص الذي يصب في نهر الزمن , و التاريخ لا يغفل شيئاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـلولة - أوراق جديدة - 2007م