Friday, 27 April 2007

صِنَاعةُ الحَــاكِم


في التضاريس السياسية ذات المناخات الديمقراطية , صناعة الحاكم هي مشروع حيـاة يبدأ بخِطْبة الوالدين و لا ينتهي بالموت ! . حيث تعصِف أصغر الهنَّات بأعرق التواريخ و السِّيَـرْ فَتُورِثُها جحيم الآخرين المُتربِّصين تحت مظلّة الديمقراطية الحَادِبة الرّصِينة , و " هَمْبَريب " الحُريَّات التي قد تتمدد و تتطاول حدَّ الاعتراض على " أحدهم " , لأن في تاريخه الشخصي ما لا يروق لهم " ساااكت " ! . هى إذن رحلة الأقنعة القابلة للتبدُّل بسرعة الضوء و المَرْصُوصَة بعِناية على طاولة الإحتياج الآنِي , و مشوار الصَّواب المُسالِم الذي تَصقُله يوميّة الإنتباه القَلِقْ . إذ لا مجال للتَظارُف المُطلق في مواقف التَبَسُّم المدروس , و لا سبيل إلى الارتجال في مواضع التفْنيد ! . و على قدر التصاق الشعوب بانتماءاتها الأيدلوجية و جذورها الإثنية يكون الإشتِغال على هذه الصِّناعة , و الإنشِغال بتجويدها بتقنيات مُمَاثلة لها في القوة و مُخَالفة لها في الإنتماء , دونما تَقاطعٍ أو تَفْريط . و بتََقليب البَصَر في السِّمات الظاهرة للعَيان في تكوين الشخصية السودانية - و لندَعْ الحديث عن غيرها لمقام آخر - نَخلُص إلى إشكالية
" الشأن السياسي السوداني " والتي يمكن تَقْطيرها في جملة " نحن نُغنِّي لأنفسنا " , فواقع سياساتنا الخارجية " أغنية سودانية " لا يستسيغ العرب لحنها لأنها من سُلَّم موسيقي آخر غير الذي تَعوّدوا عليه , بينما لا يستطيع الأفارِقَة ترديدها لأن كلماتها بالعربية ! . إنَّ حالة " البرزخيَّة " الجغرافية و الإِثنيَّة التي نَحيا معها و نَنْطَلق منها - كَونَنا سُكَّان أرض تتَقاطع عندها و فيها الحُدود الإِثنيَّة ,
و تَمْتَزج أو تتَجاوَر بها العَشَرات من الهويّات العرقيّة التي تَتَفاوت و تَتَداخل , و تَضيق و تَتَّسع على نحو سريالي - قد رَسَمتْ - دون شك - خطوطها العَنيدة في الملامح العامة للشخصية السودانية فأورثتها تلك الأعراف المُوغِلة في الإختلاف , و ذلك التميّز
" المتوحِّش " الذي يُمَنْطِق شخصية " السياسي " عندنا , و مشواره مع فكرة (القيادة) مُنذ الأسرة إلى الحكومة , و التي هي خَير " نُبذة " عن أزمة الهويَّة تلك . الحُكَّام عندنا ما انفَكُّوا يتفاوتون بين ساسة يتراوحون بين وَرَثة السيادة الطائفية و أبناء (البُيوتات) , و أولئك القادمين من قُماشَة العامَّة و الثائرين على فكرة الحُكم الذي يتّكئ على هَيْمَنة (الطوائف) و إرث (البيوتات) , إنَّما في البَدء و الُمنْتَهى و مع هؤلاء و أولئك تَطغَى ذات الملامح العَنِيدة للشَّخصيّة السودانية , فـ عند "عشوائية الطَّرح" , و "فوضَوية التلَقِّي" , و "ردود الأفعال ذات الزوايا الحادَّة" يلتقي الآتي من صُفوف العامّة , و الوارث للسِّيادة الطائفية , و القادم من بيوت الإرث السياسي , و إن اخْتلَفتْ المُبرِّرات و آليات التطبيق , فـ هذا بـ عنجهيَّة السيد المُنزّه , و ذاك بـ لامبالاة الوارث المُنعَّمْ , و ذاك بـ سخط القائد الثَّائر . لا يَختلفون في ذلك باختلاف مواقِعهم من الكراسي و لا يَتفاوتون فيه بتفاوت المسافة بينهم و نهاية شارع القصر . الحاكم و المناوئ على حدٍّ سواء , لأن الجذر و المُنْطَلَقْ واحد . و كما أدركنا و لا نَزال نتَعلَّم أن حاكم اليوم هو مُعارِض الأمس , و مُعَارض اليوم هو حاكم الأمس و رُبَّما الغَد الذي يَتكئ على ذات الفكرة التي ذكَرنا آنفاً ... و هكذا دواليك ... , إلى حين أظنُّه سيكون طويييلاً إن لم نَقِفْ عند هذا الأمر بنزاهة و تَجرُّد , و نَهرع بصرامة يُزامِلُهَا الإتزان إلى تجويد صِناعَة الحاكم و فَكّ و من ثَمَّ رَتْق قُماشَة المَحكوم , حتى يستقيم هذا الأمر . إن المعنَى الشَّاهق المُترفِّع لفكرة الوطنية يكمن في التّفريق الصّارم بين الدولة كأنظمة مُتعاقبة و" الوطن " كجَذر و انتماء لا ينبغي أن يتَقاطَع مفهوم الولاء له مع أى تَبعيَّة أو مُروق سياسي . إن موضوعيَّة الطَّرح و اتزان التَفَهُّم و التفريق بين مفهوم الولاء الوطني و الولاء السياسي أمور يَنبغي أن تُضمّن في المناهج الدراسية الأساسية لأن هذا الوعي إنَّما يَتكوّن في تلك المرحلة على عكس ما قد يبدو , هذا فيما يَختَص بجذريَّة الحلول لصناعة ساسة الغد , أما المُتسايسين و بعض السِّياسيين الذين ما فَتِئُوا يتَعاقبون علينا بالتَّناوب فـ لَنَا في عَداءهِم الأَزَلي للمَنْهَجيّة حُسْن العَزَاء ! .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - 2007 م

الشِّـــدة في مقام السياسة


"مرحبا بالأبطال" هكذا يُخاطِب ضباط الجوازات في مطار مانيلا المغتربين - "هُولُن" - العائدين من المنافي الطوعية التي قصدوها لتحسين الدخل و ترميم الحال , فياللعجب الزائل حتماً إذا عُرف السبب ! .
في آخر زيارة لها للسعودية كان من أولويات "غلوريا أوريو" مناقشة أوضاع العمالة الفلبينية هناك , إذ أن 8 مليون فلبيني هم مغتربون يعملون خارج أراضيهم , و يعتمد عليهم اقتصاد البلد إلى حد كبير , و لم يكن غريباً أن زيادة ملحوظة في رواتب العمالة الفلبينية بالسعودية قد كانت من نتائج تلك الزيارة . بينما نحصد نحن الشتات في الداخل قبل الخارج و دونما احترام في الحالتين . فلا دولة تُمَثِّلُنَا بـ "طرح جاد" كجاليات متكاثرة سريعة الإنقسام في بلاد الله الواسعة , و لا جهة مختصَّة منوط بها التفاوض مع انتهاكات الغير الذين يُتقنون استرجاع ما نَحصُده منهم جَـرَّاء الغربة و القولون والأمراض المزمنة , بلا حقوق مكفولة باتفاقيات دولية , ثنائية , منظَّمة , ظاهرة لعيان مرتادي المنافي , القابعين في بلاد الآخرين بعشوائية موازية لعشوائية الدولة في علاقتها بـ المغترب , و اقتصارها في التعاطي مع الأمر على الأخذ دونما رد مُنْصِف من أى نوع . كيف لا تَنْهشُنا الغَيْـرة من مغتربي الفلبين و قد قالت مديرة منقوشة اليدين بحناء حالكة في ضرائب المغتربين لطبيب محترم لكنه من مغتربي المنافي : " أنت مُسْتَهِبل " ! .
نعود إلى الفلبين " الهديّة " , "الرضيّة " فـ إلى جانب عائدات العمالة المُهاجرة تُعتبر إجادة اللغة الإنجليزية استثماراً هائل المردود حيث تتخذ معظم الشركات العالمية من الفلبين مقراً لموظفيها المنوط بهم الرد على استفسارات العملاء , ذلك أن أجور العمالة المحلية عندهم زهيدة إذا ما قورنت بالأجور المعتادة في مساقط رؤوس تلك الشركات , و قد بلغت عائدات الفلبين السنوية من هذا النوع من الاستثمار – في دراسة حديثة – أكثر من 3,5 مليار دولار أمريكي ! .
أيضاً في البرازيل تعد ضرائب دخل لاعبي كرة القدم تِرْساً فاعلاً و مؤثِّراً في عجلة الإقتصاد البرازيلي . و في سنة 2005 كانت عائدات الأردن من السياحة الطبية لمواطني دولة السودان لوحدها 400 مليون دولار أمريكي ! .
هذا ما أُسَمِّية بـ الحداثة الإقتصادية التي تراجعت معها و بفضلها النظرة التقليدية لفكرة الإستثمار , كما تراجعت ريادة الشعر العمودى بفعل التفعيلة و قصيدة النثر ! . أو لعل هذا ما يُسَمُّونه بـ " الشدة " بالمعنى المحلي للكلمة . فـ " شديد " عندنا مفردة مَحلِّية تطلق على الشخص الحريص على مصلحته العارف ببواطن جَلْبِهَـا , و هى بهذا المفهوم المَحلِّي سمة غالبة على حِيَـل الإستثمار العالمي , إلا أن إيغالنا الغير مبرر في التشبث بالعربية الفصحى , حتى في مدلول المفردات المحلية , قد جعل معاملاتنا الإقتصادية تتماهى مع مثيلتها السياسية في استخدامنا " الفصيح " للكلمة , فالشدَّة في المعاملة عندنا لا تزال هى " الغلظة " , أى كما هي بمعناها الفصيح و الأزلي .
لندع تَرَف الخلق و الابداع في مجال الاستثمار بكل قماشاته الجيِّدة - بعيداً عن البترول الذي لم تبلغ عائداته نصف دخل عائدات الفلبين من تطوير اللغة الإنجليزية ! - و لندع مساربه "السااااهلة" سهولة نفاذ الضوء من عقب الباب إذا كان يَسكُن هذا البلد شعب آخر , و لنُرجع البَصَر في مدى تأثير الشخصية النَمطيّة السودانية على سير الأمور في هذا البلد " الغني" بالموارد الفقير إلى الناس "الشُّداد" , سنجد أن الحكاية بتبسيط هادف غير مُخِل هى حكاية الثالوث الذي تحدثنا عنه آنفاً في المقال الأول , و المتمثل في "عشوائية الطرح" و "فوضوية التلقي" و "ردود الأفعال ذات الزوايا الحادة" . و إلا فهل من مُخبرٍ عن " الخواجة " الأسباني الذي عَـرَضَ ضَخ 110 مليون "يورو" بالتمام و الكمال في تحويل حديقة " الدندر " إلى مشروع سياحي عالمي مُنْـذ مُـدَّة طويييلة بعمر الانتهازية الإقتصادية قبل طولها باعتبارات الزمن ؟! . ياترى أين هو الآن ؟! , و ماذا فعل الله به ؟! , إن كان الرجل قد شَـرَعَ و لم نسمع به في وسائل الإعلام فتلك إحدى تداعيات انعدام "الشدّة" بمعناها المَحَلِّي , و إن لم يكن قد عاد حتى الآن , فالأمر (قَـدْ) لا تخرج أسبابه عن "عشوائية" إجـراء , أو "فوضوية" مُبادرة , أو "حِدَّة" زاوية قائمة لردَّة فعل من مسئول تنقصها "الشدَّة" – بالمُفردة "هُولنَا
" - ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - 2007 م