لم يولد المهاتما "غاندي" في يوم "خاص" , و لم يشهد العالم تغيرات ظاهرة أو حتى طفيفة في حالة الطقس يوم ولادته , بل أتى في هدوء و عاديَّة أنيقة كمئات العظماء الذين يأتون بلا ضجيج , و يرحلون في صمت , تاركين إرثاً جليلاً يحكي الكثير عنهم دونما كلام ! . كان يَفزع من الأشباح و الهوام , و قد ظلَّت زوجته تعاني من إشعال الإضاءة في غرفة نومهما – كل ليلة - حتى الصباح لأنه كان يخاف الظلام ! . لم يكن "غاندي" (جاموس خلاء) بأية حال , بل كان نموذجاً مناسباً و مُمَنْطِقَاً لشخصية البطل المترعة بمثالب "الأنتي هيرو" التي أحيتها واقعية الفن الحديث ! . و لأن عاديته تلك لم تكن أمراً مفروضاً بل خياراً آمن به و سعى إليه , فقد حقق من خلالها مشروعه السلمي العظيم " الساتيا غراها " الذي باركته الإنسانية الحقَّة كون آلياته تتلخص في اللجوء إلى المقاومة السلبية أو اللاعنفية كوسيلة لتحقيق الإصلاح الإجتماعي و السياسي .
تغيير المواقف و الآراء السياسية ليست أموراً من شأنها أن تُقوِّض مفهوم البطولة , كما أن تغيير الرأي في - مطلق الأحوال - لأجل الأهداف القومية ليس رجوعاً عن الصواب بل هو رجوع - عملي - إليه . متكئاً على هذه الفلسفة حقق غاندي كل إنجازاته الإصلاحية بفضل واقعيته النزيهة , و تراجعه الشجاع عن آراءه التي أثبتت الأيام عدم جدواها , فوضع بذلك حجر الزاوية لديمقراطية قوية شهد العالم و لا يزال رسوخها , بينما ظلت الديمقراطية في بنجلاديش و باكستان التي كان الانفصال خيارها - في وقته - تتَملْمَل حتى الساعة . في أثناء إقامته في جنوب إفريقيا كون غاندي فرقة إسعاف هندية بهدف مساعدة الجرحى البريطانيين في حرب البوير , و قد ظلَّت فرقته تقدم الخدمات الطوعية للبريطانيين حتى في حروبهم مع "الزولو" . ظلَّ يفعل هذا على الرغم من تعاطفه العميق مع شعب الزولو باعتبارهم أسياد أرض و أصحاب حق . هل كان غاندي "ميكافيلياً " ؟ , الإجابة على هذا السؤال بالنفي أمر تكفلت به قوة الهند السياسية و الاقتصادية المتعاظمة , كما تكفلت به أضابير التاريخ التي لا تغفل شيئاً ! . و لأن البطولات السياسية ليست مواقف جذابة أو حتى داوية بل نتائج محسوبة و مرضية للشعوب و لتاريخها في النهاية , كان الرجل يرى في بريطانيا "المعبر الوحيد" لتطوير الهند , و أن الانتعاش الاقتصادي لن يكون إلا عن طريق الحفاظ على الصداقة معها . كل هذا في ظل الثبات على مبدأ أن الهند لا يجب أن يحكمها سوى الهنود .
يمكنني أن أقول بكثير من الاطمئنان بأن العالم اليوم هو "مستعمرة أمريكية" أذا وضعنا في اعتبارنا أن "امتلاك" التأييد المطلق من ِقبَلْ الآخر , أو - على الأقل - ضمان سكوته أمر يحكمه الحرص على المصالح قبل الخوف من الضرر ! . بل ربما يمكنني أن أقول ُمتَّكئةً على ذات القدر من الاطمئنان بأن "الحل" ربما يكون في "تناص" سياسي عن "ساتيا غراها " الهند نسقطه على واقعنا المحلي الذي يشهد مفهوماً مشوشاً لفكرة البطولة و الإنجاز السياسي . إن ثقافتنا التي تتكئ في خصوصيتها على موروثاتنا العرب إفريقية قد كانت و لا تزال تُضَيِّقُ الخِنَاق على أي معني قشيب لفكرة (البطولة) , و على الرغم من إدراكنا لضرورة التجديد كونه نتيجة منطقية لمتغيرات كثيرة يفرضها تعاقب الأزمان على ثوابت البشر الخطاءين , إلا إن مفهوم البطولات السياسية "عندنا" قد كان و لا يزال يسعى و يرمِل بين قرارات عاطفية تشوبها الحماسة و يكللها إقدام ساحات الوغى , و تتماهى آمالنا بشأن مردودها مع تداعيات (وامعتصماه) , و غضبات ( مضر زنجية ) لا تأبه للأخطار المحدقة , ولا تكترث لاعتبارات الحكمة المُهادِنة . أي أن (البطل) في أذهاننا حتى اللحظة هو (جاموس الخلاء) الذي لا يبقي و لا يذر . فهل من مبشِّر بمجانبة هذا الحديث لصواب نتوسم أنه قد فات علينا ؟ ! .
قيل بأن الحقيقة لا تدركها إلا عين تنظر من ربوة الأبدية على الزمن كله , و عين التاريخ تومئ إلى خلود الإنجازات الفكرية الإصلاحية , و تومئ – غامزة بمكرٍ الحاذق – إلى أن ما عداها يذهب جُفاء ! .
تغيير المواقف و الآراء السياسية ليست أموراً من شأنها أن تُقوِّض مفهوم البطولة , كما أن تغيير الرأي في - مطلق الأحوال - لأجل الأهداف القومية ليس رجوعاً عن الصواب بل هو رجوع - عملي - إليه . متكئاً على هذه الفلسفة حقق غاندي كل إنجازاته الإصلاحية بفضل واقعيته النزيهة , و تراجعه الشجاع عن آراءه التي أثبتت الأيام عدم جدواها , فوضع بذلك حجر الزاوية لديمقراطية قوية شهد العالم و لا يزال رسوخها , بينما ظلت الديمقراطية في بنجلاديش و باكستان التي كان الانفصال خيارها - في وقته - تتَملْمَل حتى الساعة . في أثناء إقامته في جنوب إفريقيا كون غاندي فرقة إسعاف هندية بهدف مساعدة الجرحى البريطانيين في حرب البوير , و قد ظلَّت فرقته تقدم الخدمات الطوعية للبريطانيين حتى في حروبهم مع "الزولو" . ظلَّ يفعل هذا على الرغم من تعاطفه العميق مع شعب الزولو باعتبارهم أسياد أرض و أصحاب حق . هل كان غاندي "ميكافيلياً " ؟ , الإجابة على هذا السؤال بالنفي أمر تكفلت به قوة الهند السياسية و الاقتصادية المتعاظمة , كما تكفلت به أضابير التاريخ التي لا تغفل شيئاً ! . و لأن البطولات السياسية ليست مواقف جذابة أو حتى داوية بل نتائج محسوبة و مرضية للشعوب و لتاريخها في النهاية , كان الرجل يرى في بريطانيا "المعبر الوحيد" لتطوير الهند , و أن الانتعاش الاقتصادي لن يكون إلا عن طريق الحفاظ على الصداقة معها . كل هذا في ظل الثبات على مبدأ أن الهند لا يجب أن يحكمها سوى الهنود .
يمكنني أن أقول بكثير من الاطمئنان بأن العالم اليوم هو "مستعمرة أمريكية" أذا وضعنا في اعتبارنا أن "امتلاك" التأييد المطلق من ِقبَلْ الآخر , أو - على الأقل - ضمان سكوته أمر يحكمه الحرص على المصالح قبل الخوف من الضرر ! . بل ربما يمكنني أن أقول ُمتَّكئةً على ذات القدر من الاطمئنان بأن "الحل" ربما يكون في "تناص" سياسي عن "ساتيا غراها " الهند نسقطه على واقعنا المحلي الذي يشهد مفهوماً مشوشاً لفكرة البطولة و الإنجاز السياسي . إن ثقافتنا التي تتكئ في خصوصيتها على موروثاتنا العرب إفريقية قد كانت و لا تزال تُضَيِّقُ الخِنَاق على أي معني قشيب لفكرة (البطولة) , و على الرغم من إدراكنا لضرورة التجديد كونه نتيجة منطقية لمتغيرات كثيرة يفرضها تعاقب الأزمان على ثوابت البشر الخطاءين , إلا إن مفهوم البطولات السياسية "عندنا" قد كان و لا يزال يسعى و يرمِل بين قرارات عاطفية تشوبها الحماسة و يكللها إقدام ساحات الوغى , و تتماهى آمالنا بشأن مردودها مع تداعيات (وامعتصماه) , و غضبات ( مضر زنجية ) لا تأبه للأخطار المحدقة , ولا تكترث لاعتبارات الحكمة المُهادِنة . أي أن (البطل) في أذهاننا حتى اللحظة هو (جاموس الخلاء) الذي لا يبقي و لا يذر . فهل من مبشِّر بمجانبة هذا الحديث لصواب نتوسم أنه قد فات علينا ؟ ! .
قيل بأن الحقيقة لا تدركها إلا عين تنظر من ربوة الأبدية على الزمن كله , و عين التاريخ تومئ إلى خلود الإنجازات الفكرية الإصلاحية , و تومئ – غامزة بمكرٍ الحاذق – إلى أن ما عداها يذهب جُفاء ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - 2007 م
No comments:
Post a Comment