كلُّ حركة في هذا الكون إذا وُظِّفَتْ في مكانها الصحيح تُؤتي أكُلَها حتماً , و إن هي حدثَتْ بلا داعٍ تُصنّف ضرباً من العَتَه , أو أنها – في أفضل الأحوال – قد توحي بذلك . كسيدة من بلاد " القوقاز " مثلاً , إذا ما قمتُ بفتح جهاز التلفاز فرأيتُ – على شاشته - شخصا يهزُّ رجله على نحوٍ قَلِق , و هو إلى جانب هذا يتحدث مُقطِّباً , سأجزم على الفور بأنه إما مجنون أو على تخوم العته ! . عندها لن يجدي - في حكمي عليه - كونه يشرح نظرية "البروسترويكا" و عظيم تأثيرها على الاقتصاد الروسي الذي يدخل في دائرة اهتمامي كوني سيدة قوقازية ! . و عليه فـإن هَـزَّ الأرجل كحركة بشرية قد يؤتي أُكُلَه مع الخياطين فيصنعون بإيقاع الهز على الماكينات أثواباً أنيقة , و مع النسَّاجين فيخرجون علينا بمنسوجات عالية الجودة , أما في حال السَّاسة من رؤساء و وزراء و مدراء و سفراء , أولئك الذين اختاروا أن يكونوا " في الواجهة " أو على " الخط الساخن " جُلَّ أوقاتهم , فإن الهز كحركة بشرية يصبح من قبيل ما ذكرنا آنفاً ! . قال تعالى : " في ظلال على الأرائك متكئون " , أي أن الاتكاء - و قد يدخل في مضمونه الاضطجاع أو الرقاد كأفعال بشرية مريحة و ماتعة - هو مما كافأ به الله عباده المؤمنين في الجنة , و لو كان الاتكاء من الأمور العادية التي درجنا على تكرارها بمناسبة و بغيرها , و في أي محفل , و على أي وجه , لما اعتُبِر ذلك من نعيم الجنة ! . أقول هذا لأن الاضطجاع و الاتكاء أو حتى الرقاد على الكراسي مَسلكٌ يتَفنّن ساستُنا فيه بمهارة لا تخلو من طرافة ,فهم وحدهم الذين يتململون و يتقلبون فوقها في معظم المحافل و المؤتمرات, بل أن منهم من يتخذ أوضاعاً جانبية شديدة التعقيد تفوق الجلوس على الكراسي - بظهور معتدلة - صعوبةً . هذا مع التنوع في كيفية ارتماء جانب الوجه على باطن أحد الكفين . و لا يهم إن كان ذلك في قاعة الصداقة , أو الألبرت هول , أو حتى البيت الأبيض ! . و حتى يُعطَي اجتهادي هذا القدر الذي يستحقه من افتراض الأهمية و الخطورة , أقول بأن معظم المفكرين و دعاة الإصلاح قد أرجعوا الكثير من المشكلات القومية في بلادهم , و التي كان لها تأثير ظاهر على إنتاج شعوبهم و مكانتها و فرادتها الإقليمية إلى طبائع الفرد . فقد حدد "ماكس فريش" حسن النية اللامبالي الذي رمز له بـ " البنزين " كسبب تقتل الإنسانية به نفسها , كما خَلُص "ديرنمات" إلى أن الحياد الأناني - الذي يرمز له باللون الرمادي – هو مشكلة الشعب السويسري حيث أودى به إلى الجمود و العزلة . في الوقت الذي لخَّص فيه "فانس باكار" مشكلة الشعب الأمريكي في تحول أفراده إلى مستهلكين و بالتالي ضحايا لوسائل الإعلام حيث تقوم الشركات باستخدام الإذاعة و التلفاز للترويج للسلع التي رمز لها بـ " السيارات " . و عليه إذا ما حاولنا تشييء تلك المشاكل في صورة أيقونات نجعل منها رموزاً لها بحسب فلسفات هؤلاء المفكرين فـ يمكننا أن نقول بالآتي : مشكلة الإنسانية رمزها جالون بنزين , و مشكلة أمريكا رمزها سيارة , و مشكلة سويسرا رمزها بقعة لون رمادي . بينما مشكلة السودان – في تقديري – رمزها سرير ! . و ما الدول و شعوبها إلا شخصيات اعتبارية تتألف من أفراد تُشكِّل جاذبيتهم أو عدمها الملامح العامة لعوامل الجذب أو الإخفاق السياسي . و لعل هذا هو السر في كاريزما " لبنان" كدولة , أو السر في ذلك التكالب العربي المُنبَهر عليها, فما أن تتَهدّم مبانيها بفعل مسلسل الحرب الأهلية حتى يهرع الجميع إلى التبرع بميزانية قُطر لإعادة تعميرها ! . "رورو" صديقتي اللبنانية ناقشت معي - ذات ونسة - كيف أن صناعة السّاسة في لبنان - كما في معظم دول العالم - صناعة نجوم . ماذا تلبس و كيف تجلس و تأكل و تتحدث ؟ . كيف تتغلب على الحرَج ؟ . كيف تكون مقنعاً و متى تصبح مُفحِماً ؟ . كيف تَتبسَّم على نحو مدروس و كيف تتظاهر بالقلق أو الحزن إذا لزم الأمر ؟! . " ما في مجال للغَلََط ! " هكذا هتَفتْ "رورو" مع تعطيش الجيم و هي ترمُق من طرف خفي - أحد ساسة دولة السودان المنبطح على الكرسي في أثناء حوار كانت تَبثـُّه إحدى القنوات العربية ذائعة الصيت ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - يونيو - 2007 م
No comments:
Post a Comment