Friday, 14 December 2007

و الله نحن مع الطيور


في أيام الجامعة كانت لأحد زملائنا من (سناير) الكليَّات الأخرى - الذين يكثرون من التظاهر بالوسامة و الذكاء أمام (البرلومات) - مقولة طريفة كان يُطلق عليها (نظرية) !

كان ذلك الزميل يقول : إن السر في جمال معظم زميلاته - الفاضلات ! - من بنات الشهادة العربية يرجع إلى اغتراب آباءهن قبل أن يتخذوا قرار الزواج .

فـ المغترب الذي يتمكن من جمع أكبر قدر من المال يعود ليختار أجمل فتاة في العائلة، أو أجمل (بت في الحلة) و لهذا السبب فـ إن معظم زوجات المغتربين من الجميلات و بالتالي بناتهم .

بالطبع كنت أرى نظريته تلك متهالكة و مليئة بالثقوب، ربما لأن الغرض من طرحه لها بكل ذاك الحماس لم يكن لله في لله !

ثمَّ .. قبل بضعة أشهر و ذات أمسية كئيبة و بينما كنت أتحايل على ضجري بمشاهدة التلفاز شاهدتُ في (برنامج ما) على إحدى القنوات السودانية (باقة) من النساء المغتربات يتحدثن أو (يتونسن) في جلسة دائرية خلابة المنظر عن الحياة في بلاد الغربة - لم يتحدثن عن معاناة الغربة و .. ويلات الغربة بل - عن تفنُّنهن في التأقلم مع الحياة في الغربة .. و عن طقوس تزويج أبناءهن في الغربة .. و عن كيفية قضاء الأعياد في الغربة !

ثم قالت أجملهن بابتسامة راضية مُطمئنَّة :

- و الله يا جماعة .. نحن هنا لو جاتنا أي مناسبة ما بنحس بأي فرق كأننا في السودان بالضبط .. لأنو نحن هنا كلنا يد واحدة !

فـ ما كان مني إلا أن تساءلت في دهشة حقيقية لا أثر فيها للسخرية :

- هل تتحدث هذه السيدة عن المغتربات فعلاً .. أو بجملة أخرى (هل تتحدث هذه السيدة بلساني) ؟! .. إن كانت تفعل فـ يا للعجب !

من قال بأننا نعيش الغربة بكل هذه السعادة و الحبور ؟! .. و من قال إن الغربة أياً كانت معطياتها و كيفما كانت يمكن أن تكون مُرضية للحد الذي يجعلنا نهتف بكل ذلك الاطمئنان : (كأننا في السودان بالضبط ) !

تمنيت أن أسأل تلك المغتربة عن أمرين كلاهما (هام) من وجهة نظري (القابلة للخطأ و الشطط) .. كنت سوف أسألها بلهفة عن تلك المعادلة السحرية التي تجعلني أعيش ساعة واحدة في الغربة كأنني في السودان بالضبط !

أما سؤالي الثاني فسيكون عن نوع (كريم الأساس) الذي تستخدمه لأنه كان يعكس الإضاءة على بشرتها بشكل رائع طوال الحلقة .

( بـ منتهى الجديَّة أتمنى أن أعرف ماركة المكياج الذي كانت تستخدمه و هذا جزء أصيل من اهتمامات النساء) !

على كلًّ : لقد عزز حديث تلك السيدة الفاضلة من إحدى قناعاتي و التي مفادها أن الاغتراب هو (اسم الدلع) الذي يطلقه المهاجرون السودانيون على هجرتهم .. فـ هل أنا مخطئة ؟! ..

المغترب هو الشخص الذي يترك البلد وسط دموع الأهل و هو يردد من بين دموعه : ( ما مشكلة كلها كم سنة و الواحد يرجع يستقر) .. المغترب هو الذي يضع لاغترابه (خطة ما) .. خمسيَّة .. أو عشريَّة .. أو حتى عشرينية .. المهم أن يكون هنالك سقف زمني ما !

و بما أنِّي أمثل الجيل الأول ( ولا الثاني ما عارفة) من أبناء المغتربين الذين تسلمُّوا راية الاغتراب من آباءهم الذين لا زالوا مغتربين، أقول بكل صراحة و مرارة : ( نحن لسنا مغتربون .. نحن مهاجرون ) .. أما إلى متى ؟! .. فـ (الله أعلم) !

نعود إلى (ونسة) المغتربات في ذلك البرنامج .. كنت قد لاحظت أنَّهن على كثرتهن جميلات جداً .. فـ التفت إلى زميلي (صاحب النظرية) - الذي أصبح زوجي - و قلت بابتسامة مسكينة :

- و الله ما شاء الله .. الجماعة ديل بـ تنطبق عليهم نظريتك بتاعة أيام الجامعة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


صخرة سيزيف أو محاحاة القراء

جاء في الأساطير الإغريقية أن (سيزيف) الذي كان ملكاً و محارباً بارعاً و ذكياً قد ارتكب من الأفعال ما أثار غضب آلهة الأوليمب فحكمت عليه بأقسى أنواع العقاب التي يمكن أن تخطر لـ آلهة أسطورية على بال !

فقد أجبره الإله (زيوس) على أن يُدحرج صخرة عملاقة إلى قمة جبل و ما أن يصل بتلك الصخرة إلى القمة حتى تنحدر الصخرة و تسقط عند سفح الجبل، فـ يعود (سيزيف) لدحرجة الصخرة مرة أخرى إلى قمة الجبل .. و هكذا ..

لأجل هذا اعتُبر (سيزيف) البطل الأسطوري الوحيد الذي يكافح كفاحاً مريراً لإنجاز مهمة أبدية و هو يعلم علم اليقين أن لا جدوى من كفاحه لأنها سوف تكلل بالفشل !

و ما (مُتسَزيِفْ) - أكثر من (سيزيف) نفسه - إلا كاتب العمود الذي يظل يدحرج صخرة (رضا القراء) من السفح إلى القمة و من القمة إلى السفح .. إلى أجل أظنه غير مسمى .

إنما مؤكد أن هناك فرق بين (سيزيف) سيد الاسم و الكاتب (المتسزيف)، و جوهر الفرق بينهما يكمن في معنى الخيار !

فـ بينما يدحرج (سيزيف) الأصلي صخرته بمرارة القانع بانعدام الخيار يختار الكاتب أن يمضي قدماً في (محاحاة القراء) .
و على الرغم من كون هذه الدحرجة أو تلك (المحاحاة) ليست خياره الوحيد يظل إلا أنه يستعذبها دونما ملل .

فـ القارئ - أي قارئ - أينما و كيفما وجد هو طفل الكاتب المدلل، و إن كانت أسباب هذا التدليل تتفاوت من الرغبة في البقاء عند حسن ظنه لأسباب أخلاقية و مثالية بحتة .. إلى الرغبة في ذلك لأسباب مادية و مقتضيات تسويقية و توزيعية !

تتعدد الأسباب و يظل القارئ ملكاً متوجاً يحق له أن يقول بما لا يحق لغيره، و من أجل عينيه اللتين تجريان على السطور تُسل الأقلام و تسوَّد الصحف .

و لأن (رضا الناس غاية لا تدرك) كما جاء في حِكَم البشر القديمة في عهدها .. المتجددة في ثبوتها سيظل رضا (كل) القراء هو (ضخرة سيزيف) جميع الكتاب حتى ترفع الأقلام و تجف الصحف !
و قد كان لي من تلك (السزيفة) نصيب وافر عندما أعربت في مساحتي اليومية بـ جريدة حكايات عن دهشتي من أن تكون الممثلة المصرية (مديحة يسري) الـ عادية الشخصية .. عادية الثقافة هي المرأة التي حطمت قلب رجل بقيمة وقامة عباس محمود العقاد .

ثم تصادف أن كتبت في ذات المساحة في اليوم التالي عن صديقة لي لا تطيق الكتب المكدسة حولي طوال الوقت بينما أمتعض بدوري من أطقم (العدة) و (الملايات) المكدسة في بيتها .

فأخبرني أحد القراء في رسالة ساخطة بأن تنديدي بـ (عاديَّة) (مديحة يسري) و بـ نوع اهتمامات صديقتي تلك هو إفراط في الثقة بثقافتي ثم صارحني بأن حديثي هذا قد تسبب في (فقع مرارته) لا سيَّما و أن صورتي المرفقة مع العمود تدل على أني (زولة مراية) ساكت !

أما رسائل القراء التي تنتقد و تستنكر اعترافي بعدم سماع أي أغنية للجابري بصوته قبل قراءتي لإحدى مقالات ( حاطب ليل) التي كان موضوعها أغنية (سيد الاسم) فقد ظلت تنهمر على بريدي بتدفُّق غريب حتى لحظة كتابة هذا المقال !

أما (مديحة يسري) فقد قارنتُ ثقافتها بثقافة العقاد و ليس ثقافتي، و أن كان لا بد من حكاية الجمع و التكديس فالكتب أولى و أعم فائدة من أطقم (الملايات) و (العدة) . و أما (المراية) فلا ضير من أن أكون (زولتها) على أن أظل كما أنا (زولة) كتب !

و أما جهلي بصوت و أغنيات الجابري – رحمه الله – فـ دعك - عزيزي القارئ - من الذين عاشوا جل حياتهم خارج السودان مثلي و تأمل قليلاً فيمن هم حولك من (أبناء جيلي) عندها كم ستدهشك كثرة أمثالي من الجاهلين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


الشروع في المكاواة

الكثير من الكُتَّاب قفزوا إلى غُرف الأعمدة الصحفيَّة من نوافذ النصوص الأدبيَّة و النقديَّة و قد كنتُ منهم، و أول درس تعلَّمتُه هو أن الكتابة النخبويَّة التي تكون في (حالة) النص الأدبي غلالة رقيقة منسدلة على جسده تضفي عليه مزيدا من السحر، هي في (حالة) المقال (حائط رابع) يفصل بين كاتبه و عموم القراء

و أدركت أيضاً كم أنَّ كتابة (السهل الممتنع) حكاية صعبة، أصعب بكثير من الكتابة النخبوية . كان هذا ضمن دروس كثيرة في كتابة العمود الاجتماعي أدين بها إلى (المدرسة البونيَّـة) حيث المقال الموشح بالجمل الغنائية التي تخدم الأفكار و تطرِّي بطرافتها الكثير من الحقائق القاسية .

و في مدرسة (حاطب ليل) حيث لا يتعالى الكاتب على القارئ بل يأخذه في جولة حول المعنى بتواضع العلماء قرأتُ مقالاً عن أغنية (سيد الاسم) للجابري فسألت بعضهم بصدق و براءة عن هذا الجابري الذي (طقش) اسمه أذني غير مرة لكني لم أسمع له شيئا،ً و عن هذه الأغنية التي رشحها (د . البوني) لتكون على رأس الأغنيات السودانية !

لكنهم أخبروني بأن هذا الاعتراف البريء بجهلي هو ذنب ثقافي كبير، و يدخل في قبيل (الجُنَح) الثقافية التي تكون على غرار الجهل بإحدى معلقات الشعر العربي، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار أن كاتب المقال قد ذكر بأنه كان يعتزم تأليف كتاب بعنوان ( الأغنيات السودانية السبع) على وزن المعلقات السبع !

و بعد أن علمت بأن تعللي بظروف نشأتي خارج البلاد لن تسعفني قمت على الفور بـ (قوقلة) الأغنية (كتبت اسمها في محرك البحث قوقل على شبكة الانترنت) و بعد تحميلها و تأكدي من حفظها في جهازي استمعت إليها فوجدتها رائعة و تستحق أن يفرد لها أكثر من مقال !

و قد ذكرتني رمزيَّة المُنادى (سيد الاسم) في كلمات الأغنية بقصة سمعتها في أحد البرامج التلفزيونية عن مناسبة أغنية (زهرة الروض) حيث قيل بأنها كتبت بناءاً على طلب رجل كان يعشق امرأة تدعى (زهرة) خلع عليها المؤلف لقب (زهرة الروض) بغرض التمويه حتى لا يشك أهلها و بقية الناس في الحكاية، و يفتضح أمر هذا العاشق العذري الذي لم ينسه ازدياد الوجد حرصه على سمعة تلك الزهرة التي قلَّلت منامه !

أما اليوم فـ لا رمزية و لا حياء و لا محاولات من أي نوع لادعاء العفة و لو من باب المجاملة، بل أصبحت الأغاني تزدحم بالأسماء (أسماء الرجال قبل النساء) !

صحيح أنِّي لم أسمع بهذه الأغنية قبل قراءتي لذلك المقال المعنون باسمها إلا أن شيئاً آخر بشأنها عدا رمزية الاسم قد لفت انتباهي، (شيء ما) في كلمات المقطع الذي يقول :

مرات أقول اديهو كلمة تزعلو/ حبة عذاب و كلام عتاب أنا عارفو ما بتحمَّلو/علشان أشوف خدو الحرير الدمعة جارية تبلِّلو/
لكنِّي قبال ابدا بي لحظات اقيف أتاملو !

لست أدري لماذا تأملت طويلاً في ذلك (الشروع العاطفي) اللطيف في (مكاواة) الحبيبة بكلام يبكيها و يستدر دموعها ! .
و قد أسميته بالعاطفي لأنه ليس كالشروع القانوني الذي يأتي بمعنى (الفعل) بل يأتي بمعنى (الشعور) أو الرغبة في إتيان الفعل !

إذاً فرجال ذلك الجيل لا يفرقون كثيراً بين الحبيبات و الأطفال، و هم يستمتعون بغضب الحبيبة و يرونه لطيفاً كغضبة طفلة ! .
و يبدو أن السبب في ذلك هو اقتناعهم بانعدام النديَّة الفكرية مع النساء لذا فقد كانوا أكثر تجاوزاً لأخطائهن و بالتالي أكثر حفاظاً على البيوت !

أما جيل اليوم فـ يبدو أنَّه لا يعول كثيرا على حكاية (الندية الفكرية) في العلاقات الزوجية، و مسئولية المرأة – عنده- عن أفعالها و أقوالها كاملة غير منقوصة، و هي أيضاً مرهونة بتلك المساواة التي طالما حلمت بها و سعت إليها !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الرأى العام - 2007