نشرت بعض الصحف مؤخراً نبأً طريفاً مفادُه أن السلطات الصينية قد حذَّرت مواطنيها الذين يذهبون للسياحة في الخارج من البَصْق أثناء سيرهم في الشوارع في محاولة صارمة لتحسين صورة المواطن الصيني في الخارج !!
و الحقيقة أنني قد - توقفت منذ عهد ليس بقريب - عن الشعور بالدهشة إزاء كل ما يقوله أو يفعله أي مواطن صيني إبتداءاً من .. ( هو جنتــاو ) .. مروراً بـ .. ( يونغ تشانغ ) التي ألهبت روحي روايتها الهائلة ( بجعات بريَّة ) بذات القدر الذي صفعت به رصانَتي فبتُّ أثرثر عنها لكل من حولي .. و انتهاءاً بالسائح الذي تتوعده الحكومة بالويل و الثبور إن هو عاد إلى اقتراف البَصْق في شوارع ( الناس ) مجدداً !! ..
ليس لأنهم قد فقدوا بريقهم و توهجهم في هذا الصدد - لا سمح الله - أعنى مقدرتهم الفذة على إدهاش الآخر المغاير أينما و كيفما كان - فهم لا يفقدونها أبداً تحت أي ظرف , إنما العيب في شهيتي و قابليتي للإندهاش التي أفقدتني إياها رواية (يونغ تشانغ ) التوثيقيّة الملحميّة الضخمة التي أمسكت بتلابيبي على نحو لافت فظللت أتأرجح في قراءتها بين الشراهة في التهام بعض فصولها على طريقة أفراس النهر حيناً , و بين تذوق البعض الآخر و مضغه بهدوء و تكلُّف كونتيسات القرن التاسع عشر ً أحياناً أخرى !!
أما بعد فراغي من التدرج في كيفيَّة التهامها - أي في مرحلة التلمظ تحديداً - فقد داهمتني دفقة العذاب الشهيرة إياها التي تعقب قراءة النصوص الفذَّة .. عُشـَّاق القراءة يعرفونها جيداً !!
و لمن لم يصل إليها بعد , هي ذلك المزيج المتناغم بين الخدر اللذيذ و التحديق ببلاهة في الفراغ أمامك لفترة قد تطول أو تقصر , الأمر مرهون بتفاعلاتك الداخلية !!
دفقة العذاب الشهيرة تلك يتلاشى تأجُّجهَا تدريجيا و يَخفُتْ يوما بعد يوم إلى أن تُصبح مجرد ( قطعة مطرزة ) صغيرة و جميلة في قماش الذاكرة الناعم , نعود إلي استنهاضها كلما سنحت لذلك سانحة .. كسانحة السُيَّاح الآنفة الذكر !!
المرحلة التالية هي مرحلة الإلتفات أو (التَلفُّتْ ) على طريقة ( الشريف الرضي ) , حيث يتلفَّت قلبك صوب الكتاب بعد أن يأخذ مكانه بين الكتب الأخرى في مكتبتك كلما مررت من عنده (مُتلَكِّكَاً ) على طريقة مرور ( الشريف الرضي ) ذاتها , و قد تفعل ما فعلت أنا مع بجعات يونغ تشانغ بأن تدعو الله متظارفاً أن يمنحنك ذاكرة أخرى أو أن يُقرِضَك أحدُهم ذاكرته لا لشئ إلا لتعاود الإلتهام و .. التذوق و .. التلمظ و .. الإندهاش و من ثم الوصول إلى دفقة العذاب التى أسهبنا في وصف روعتها !!
أما لماذا أفقدتني تلك الرواية دهشتي إزاء كل فعل أو قول صيني فلأن يونغ تشانغ تلك الصينية ( الجريشية ) اللون – كما يحلو لي أن أتظارف بتلقيبها – و ( الجريش ) لمن لا يعرفه عصيدة سعودية لذيذة تصنع من حب القمح المجروش و الحليب أو اللبن , أستطيع أن أزعم أنه لا يوجد وصف يحاكي لون بشرة الصينين أكثر توفيقا من الجريش ( أنا في كل مرة أحاول و أعود للجريش ) !! - إن تلك الصينية الباسلة قد أبدعت في توثيق دراما واقعية لحياة نساء ثلاث - هُنَّ جدّتها و أمُّها و هيَ نفسُها - منذ عصر أسياد الحرب مروراً بعصر الإحتلالين الياباني و الروسي إلى حين إندلاع الحرب الأهلية بين الكومنتانغ و الشيوعيين و مجئ الثورة الثقافية و الحكم الشيوعي في ظل عهد ( ماو تسي ) بتمرحله و انعطافاته السياسية النَّزقة التي كان من أبرزها إدارة ظهره للروس و مولد الشيوعية الصفراء و من ثم انتهاءاً بموته !!
يونغ تشانغ - التي تعرض أبواها للقهر و النفي إلى معسكرات العمل البعيدة فجنَّ والدها و انطفأ تدريجيا إلى أن مات , أما هي و لما تبلغ العشرين فنفيت إلى أطراف جبال الهملايا - سطرت هذه الملحمة و نشرتها بعد خروجها من الصين في عام 1978م في كتاب ملئ بالغرائب و العجائب و الفظائع التي أرهقتني محاولات ابتلاعها .. كيف يمكن للمآسي الإنسانية أن تمتد عبر جيلين فأكثر في عائلة واحدة بكل هذا الزخم المؤثر ؟! و كيف يمكن لشعب واحد بل لجيل واحد أن يحتمل كل هذه التقلبات العنيفة والهزات الساحقة دون أن يفقد جلده ؟! .. و كيف يمكن لشعب أن يكون بهذه القوة و أن يملك تلك الإرادة الفولاذية التي جعلته يصهر الفولاذ نفسه يدوياً و بطريقة بدائية و مميتة ليصنع دولة قوية ؟! .. الشعب الذي يستطيع أن يحتمل كل هذه المآسي و الفظائع يستطيع ببساطة - و بكل سرور - أن يكف عن البَصْق في شوارع الآخرين من أجل تمثيل بلاده بشكل لائق !! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــلولة - أوراق جديدة _ 2006
و الحقيقة أنني قد - توقفت منذ عهد ليس بقريب - عن الشعور بالدهشة إزاء كل ما يقوله أو يفعله أي مواطن صيني إبتداءاً من .. ( هو جنتــاو ) .. مروراً بـ .. ( يونغ تشانغ ) التي ألهبت روحي روايتها الهائلة ( بجعات بريَّة ) بذات القدر الذي صفعت به رصانَتي فبتُّ أثرثر عنها لكل من حولي .. و انتهاءاً بالسائح الذي تتوعده الحكومة بالويل و الثبور إن هو عاد إلى اقتراف البَصْق في شوارع ( الناس ) مجدداً !! ..
ليس لأنهم قد فقدوا بريقهم و توهجهم في هذا الصدد - لا سمح الله - أعنى مقدرتهم الفذة على إدهاش الآخر المغاير أينما و كيفما كان - فهم لا يفقدونها أبداً تحت أي ظرف , إنما العيب في شهيتي و قابليتي للإندهاش التي أفقدتني إياها رواية (يونغ تشانغ ) التوثيقيّة الملحميّة الضخمة التي أمسكت بتلابيبي على نحو لافت فظللت أتأرجح في قراءتها بين الشراهة في التهام بعض فصولها على طريقة أفراس النهر حيناً , و بين تذوق البعض الآخر و مضغه بهدوء و تكلُّف كونتيسات القرن التاسع عشر ً أحياناً أخرى !!
أما بعد فراغي من التدرج في كيفيَّة التهامها - أي في مرحلة التلمظ تحديداً - فقد داهمتني دفقة العذاب الشهيرة إياها التي تعقب قراءة النصوص الفذَّة .. عُشـَّاق القراءة يعرفونها جيداً !!
و لمن لم يصل إليها بعد , هي ذلك المزيج المتناغم بين الخدر اللذيذ و التحديق ببلاهة في الفراغ أمامك لفترة قد تطول أو تقصر , الأمر مرهون بتفاعلاتك الداخلية !!
دفقة العذاب الشهيرة تلك يتلاشى تأجُّجهَا تدريجيا و يَخفُتْ يوما بعد يوم إلى أن تُصبح مجرد ( قطعة مطرزة ) صغيرة و جميلة في قماش الذاكرة الناعم , نعود إلي استنهاضها كلما سنحت لذلك سانحة .. كسانحة السُيَّاح الآنفة الذكر !!
المرحلة التالية هي مرحلة الإلتفات أو (التَلفُّتْ ) على طريقة ( الشريف الرضي ) , حيث يتلفَّت قلبك صوب الكتاب بعد أن يأخذ مكانه بين الكتب الأخرى في مكتبتك كلما مررت من عنده (مُتلَكِّكَاً ) على طريقة مرور ( الشريف الرضي ) ذاتها , و قد تفعل ما فعلت أنا مع بجعات يونغ تشانغ بأن تدعو الله متظارفاً أن يمنحنك ذاكرة أخرى أو أن يُقرِضَك أحدُهم ذاكرته لا لشئ إلا لتعاود الإلتهام و .. التذوق و .. التلمظ و .. الإندهاش و من ثم الوصول إلى دفقة العذاب التى أسهبنا في وصف روعتها !!
أما لماذا أفقدتني تلك الرواية دهشتي إزاء كل فعل أو قول صيني فلأن يونغ تشانغ تلك الصينية ( الجريشية ) اللون – كما يحلو لي أن أتظارف بتلقيبها – و ( الجريش ) لمن لا يعرفه عصيدة سعودية لذيذة تصنع من حب القمح المجروش و الحليب أو اللبن , أستطيع أن أزعم أنه لا يوجد وصف يحاكي لون بشرة الصينين أكثر توفيقا من الجريش ( أنا في كل مرة أحاول و أعود للجريش ) !! - إن تلك الصينية الباسلة قد أبدعت في توثيق دراما واقعية لحياة نساء ثلاث - هُنَّ جدّتها و أمُّها و هيَ نفسُها - منذ عصر أسياد الحرب مروراً بعصر الإحتلالين الياباني و الروسي إلى حين إندلاع الحرب الأهلية بين الكومنتانغ و الشيوعيين و مجئ الثورة الثقافية و الحكم الشيوعي في ظل عهد ( ماو تسي ) بتمرحله و انعطافاته السياسية النَّزقة التي كان من أبرزها إدارة ظهره للروس و مولد الشيوعية الصفراء و من ثم انتهاءاً بموته !!
يونغ تشانغ - التي تعرض أبواها للقهر و النفي إلى معسكرات العمل البعيدة فجنَّ والدها و انطفأ تدريجيا إلى أن مات , أما هي و لما تبلغ العشرين فنفيت إلى أطراف جبال الهملايا - سطرت هذه الملحمة و نشرتها بعد خروجها من الصين في عام 1978م في كتاب ملئ بالغرائب و العجائب و الفظائع التي أرهقتني محاولات ابتلاعها .. كيف يمكن للمآسي الإنسانية أن تمتد عبر جيلين فأكثر في عائلة واحدة بكل هذا الزخم المؤثر ؟! و كيف يمكن لشعب واحد بل لجيل واحد أن يحتمل كل هذه التقلبات العنيفة والهزات الساحقة دون أن يفقد جلده ؟! .. و كيف يمكن لشعب أن يكون بهذه القوة و أن يملك تلك الإرادة الفولاذية التي جعلته يصهر الفولاذ نفسه يدوياً و بطريقة بدائية و مميتة ليصنع دولة قوية ؟! .. الشعب الذي يستطيع أن يحتمل كل هذه المآسي و الفظائع يستطيع ببساطة - و بكل سرور - أن يكف عن البَصْق في شوارع الآخرين من أجل تمثيل بلاده بشكل لائق !! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــلولة - أوراق جديدة _ 2006
No comments:
Post a Comment