Monday, 13 November 2006

قصـــَّة موت معلـــن !

لأستاذنا الكبير أنيس منصور تعليق في منتهى الذكاء و الطرافة على ما ذكره الكاتب
الأمريكي لويس ممفورد في كتابه (نشأة المدينة الحديثة ) من أنه قد قرأ قصص ( الديكاميرون ) لبوكاتشيو و هي عبارة عن مائة قصة قصيرة ترويها سبع نساء و ثلاثة رجال في عشرة أيام أمضوها في ضواحي نابلي هرباً من الطاعون و قد كان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر , و كل ما لاحظه ممفورد هو أن الناس في القرن الرابع عشر كانوا يهربون إلى الضواحي عندما يشعرون بالتعب !! .. و من هنا ظهرت ضرورة الضاحية بالنسبة لسكان المدن !! ..
يقول مُعلِّقــاً على ذلك .. أن هذا هو كل ما لفت نظره في المائة قصة التي تعتبر من أروع الأعمال الأدبية في العالم !! , و لعله أدرك أهمية هذا العمل الفني العظيم لكن انشغاله بالبحث عن نشأة الضواحي هو الذي جعله يرى فقط هذا الجانب , ( فكل إنسان له جانب خاص من العالم ينظر منه و ينظر إليه , و هو في نفس الوقت يجعلنا ننظر إليه من زاويته هو !! ) .. تذكرت تحليله الطريف و العميق هذا بعدما سمعت من زوجي قصة موت ذلك الشيخ البدوي العنيد (أبو سبيعان ) و التي أدهشتني كثيراً .. كان الرجل قد دخل عليه شاكياً من سعال شديد تبين أنه بسبب فشل في الجانب الأيسر من القلب , الأمر الذي استدعي تدخلاً جراحياً عاجلاً أجرى في أكبر مستشفيات الرياض بعد أن تم نقله إليها على وجه السرعة و عن طريق إخلاء جوى من إحدى مناطق الشمال النائية حيث كان يعيش متنقلاً بإبله و أغنامه !! , و ما أن تماثل للشفاء حتى عاد إليه شاكياً من كثرة الأدوية و ممتعضاً من كل هذا الإزعاج !! , و بعد أن عبر عن استياءه البالغ من الأطباء واصفاً إياهم فيما معناه بأنهم مجرد شرذمة بائسة تفتقر إلى المنطق , طلب منه بحزم أن يبارك عزمه و أن يعطيه ( خاطره ) في أن يذهب إلى معالج شعبي يدعى ( أبونايل ) ذائع الصيت في أوساط البدو لمهارته الفائقة في الكي و الحجامة !! ..
الأمر الباعث على الدهشة أن الرجل بعد أن استمع إلى شرح مفصل عن أهمية تلك الأدوية في المحافظة على نجاح الجراحة و خطورة التوقف عن تعاطيها على حياته قد ضرب بكل هذا عرض الحائط و قام بالتخلص منها في أقرب سلة مهملات في ذات المستشفى بعد أن فضَّل حجامة (أبو نايل ) على آراء كل أولئك الإختصاصيين المتحذلقين أصحاب البوردات و أعضاء الكليات الملكية !! .. فجاءت وفاته أمراً حتمياً و معلناً سلفاً من قبل أن يحين !!
أما لماذا تَذكَّرتُ تعليق أستاذنا أنيس منصور على موقف لويس ممفورد من قصص بوكاتشيو و حديثه عن أن لكل إنسان جانب خاص ينظر منه و ينظر إليه فلأنني قد قمت دونما وعي مني بإسقاط تحليله هذا على موقفينا أنا و زوجي من قصة الموت المعلن تلك.. فبينما كان أبناء الراحل و نساؤه و أحفاده يلقون باللائمة على غباء الأطباء كالمعتاد .. كنت أنا منهمكة في التفكير في طرافة المفارقة بين قصة الموت المعلن لبطل رائعة ( ما ركيز ) الذي قُتِلَ ظُلماً دونما جريرة و كانت جريمة مُجتمعِه هي الصمت و السلبيَّة و قصة موت الشيخ ( أبو سبيعان ) الذي ظَلَم نفسه و قَتَلَ نفسه على الرغم من استماتة مجتمعه و حكومته في تدليله !! .. أما زوجي فقد كان يقول مستخدماً كلتا يديه في عد الخسائر ..
إن هذا الرجل قد كلف الدولة مبالغ طائلة دون جدوى , إسعاف من المركز إلى المستشفى , و إقامة في العناية المركزة , و أدوية ثم إخلاء جوي إلى الرياض و جراحة عاجلة ثم أدوية مجانية تصرف له مدى الحياة و هو مجرد مواطن بسيط لا يملك أي تأمين صحي .. قال قولته هذه قبل أن يُردف مغتاظـــــاً ..
( و بعد ده كُلُّو يقول لي حجامة ) !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـلولة - مجلة أوراق جديدة - 2006
من المفكرة - صحيفة الخرطوم - 2006


No comments: