قبل بضعة عشر عاماً كانت الأوساط الثقافية في منطقة الخليج تمور بالمعارك الفكرية و الأدبية بين المؤيدين و المعارضين لثورة الحداثة. في تلك الفترة قرأت مقالا لأحد النقاد بعنوان " ثلاث خطوات في حضرة البياتي " يتحدث فيه عن تأثره بالبياتي وافتتانه العظيم بشعره وشخصه , و أذكر أنه قد قال فيه كلاماً على غرار .. " يأخذك حديثه , يرسم لك مدنا من ثلج أسود و زمن تركض شمسه مذعورة في الشوارع " !! . لربما كانت تلك لوحةً شعريةً حداثية , أو رؤية نقدية سريالية , لا أدري , كل ما أدريه و أذكره جيداً هو أن مسألة الثلج الأسود قد أدهشتني قليلاً , بينما تفرغتُ تماماً للضحك على حكاية الشمس المذعورة تلك !! . نزاهة السرد تقتضي الإعتراف بأنني قد أعطيت الفكرة حقها من التأمل , فرأيت بخيالي شمسه تلك في ثوب أرجواني ملتهب الحواف , بأنامل لها أظافر طويلة مصبوغة بلون قرمزي , و على وجهها المشرق - بطبيعة الحال - و الساخن جداً .. جداً .. معالم الهلع و الفزع الشديدين , أذكر أيضا أنني وقتها لم أستطع مقاومة التفكير بشكل الحذاء الذي كانت تنتعله شمس البياتي أثناء ركضها الهستيري في تلك الشوارع !! , و لست أدري لماذا تخيلته حذاءاً ضيقاً و بكعبٍ عالٍ , ربما لتكتمل لوحة الذعر تلك بمعاناة الركض بحذاء غير مريح !! . لا بد أن أذكر أنني في وقت قراءتي للمقال - المذكور آنفاً - كنت لا أزال أتارجح بحكم المرحلة العمرية بين الإصرار على عدم التنازل عن عالم المغامرين الخمسة و رجل المستحيل و متابعة جديد شمسة و دانة , و روايات زهور , و بين عوالم نجيب محفوظ و عبد القدوس و السباعي و تشيكوف و فلوبير و هوجو و روسو . لكن على الرغم من برزخية وضعي الثقافي في تلك الفترة فقد تجاوزتْ ردة فعلي إزاء قصة الثلج الأسود و الشمس المذعورة مجرد الضحك إلى محاولة البحث عن كلام آخر لكاتب المقال , فوجدت له كتابا يتحدث فيه عن مفهوم القصيدة الحداثية التى يرى هو أنها لا تنتهي عند انتهاء الشاعر من كتابتها , وإنما تظل تـنمو في نفس كل قارئ من قرائها، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء !!. مممم .... هكذا ! .
كما أذكر أنني قد ظللت أتدرج في القراءة عن هذا إلى أن قادني ذلك إلى ثابت و متحول أدونيس الشهير الذي يقول فيه بان الحداثة ماهى إلا صراع بين نظام قائم على السلفية و رغبة عاملة لتغيير هذا النظام !! . هكذا إذاً ! . ! .
الحقيقة أنه على الرغم من تجاوزى لمرحلة البرزخ تلك إلى مراحل أكثر عمقاً و حياديةً , و بعد مرور كل هذه السنوات إلا أن الكثير من نصوص الشعر الحديثة لا تزال تدهشني كثيراً بغموضها , و على رأس تلك النصوص أشعار أدونيس - أقولها بشجاعة - ! , فاشتراط الغموض و الإصرار عليه في النص الشعري هى مسالة لا تقل غرابةً و إضحاكاً عن قصة الشمس المذعورة تلك !! . إن تعمد الغموض لا يمكن أن يعد إنجازاٍ ثقافيا بأى حال و لعل محاولة التقليل من فكرة الغموض كحاجز هى من أهم إنجازات مسرح العبث نفسه , حيث عمل رواده على هدم ما يسمى بالحائط الرابع , الذي هو في حقيقته جدار وهمي يفصل بين الممثل و الجمهور فكانت أشهر مسرحيات العبث بلا ستارة , و كان الممثلون يتفاعلون مع الجمهور في محاولة لهدم لذلك الحائط . أى أن تذليل الغموض و إزالة الحواجز قد كان من أبرز ملامح تطور المسرح , في الوقت الذي أصبح فيه الغموض شرطا عبقريا من شروط النص الشعري الحديث ! , فبعض الشعراء لا يتفتق إبداعهم إلا من خلف حائط رابع مماثل !! , و الدليل أن الكثيرين يؤمنون بان النص الذي يفهم ليس بشعر!! .
إن لذة تفكيك النص الشعري و محاولة سبر أغواره وإسقاط معانيه على صور من الواقع هو جزء من الدور التاريخي للمتذوق , و جزء من استمتاعه به أيضا , أما أن يتحول تذوق النص إلى معاناة قد لا يكون الفهم - الذي هو أبسط حقوق المتلقي - نتيجة مباشرة لها , فهذا أمر من شانه أن يشوه معنى الشعر ومفهوم التلقى ! .
كما أذكر أنني قد ظللت أتدرج في القراءة عن هذا إلى أن قادني ذلك إلى ثابت و متحول أدونيس الشهير الذي يقول فيه بان الحداثة ماهى إلا صراع بين نظام قائم على السلفية و رغبة عاملة لتغيير هذا النظام !! . هكذا إذاً ! . ! .
الحقيقة أنه على الرغم من تجاوزى لمرحلة البرزخ تلك إلى مراحل أكثر عمقاً و حياديةً , و بعد مرور كل هذه السنوات إلا أن الكثير من نصوص الشعر الحديثة لا تزال تدهشني كثيراً بغموضها , و على رأس تلك النصوص أشعار أدونيس - أقولها بشجاعة - ! , فاشتراط الغموض و الإصرار عليه في النص الشعري هى مسالة لا تقل غرابةً و إضحاكاً عن قصة الشمس المذعورة تلك !! . إن تعمد الغموض لا يمكن أن يعد إنجازاٍ ثقافيا بأى حال و لعل محاولة التقليل من فكرة الغموض كحاجز هى من أهم إنجازات مسرح العبث نفسه , حيث عمل رواده على هدم ما يسمى بالحائط الرابع , الذي هو في حقيقته جدار وهمي يفصل بين الممثل و الجمهور فكانت أشهر مسرحيات العبث بلا ستارة , و كان الممثلون يتفاعلون مع الجمهور في محاولة لهدم لذلك الحائط . أى أن تذليل الغموض و إزالة الحواجز قد كان من أبرز ملامح تطور المسرح , في الوقت الذي أصبح فيه الغموض شرطا عبقريا من شروط النص الشعري الحديث ! , فبعض الشعراء لا يتفتق إبداعهم إلا من خلف حائط رابع مماثل !! , و الدليل أن الكثيرين يؤمنون بان النص الذي يفهم ليس بشعر!! .
إن لذة تفكيك النص الشعري و محاولة سبر أغواره وإسقاط معانيه على صور من الواقع هو جزء من الدور التاريخي للمتذوق , و جزء من استمتاعه به أيضا , أما أن يتحول تذوق النص إلى معاناة قد لا يكون الفهم - الذي هو أبسط حقوق المتلقي - نتيجة مباشرة لها , فهذا أمر من شانه أن يشوه معنى الشعر ومفهوم التلقى ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيــــلولة - أوراق جديدة - 2007 م
No comments:
Post a Comment