Sunday, 2 September 2007

أول صفعــة !

يقولون أن ثَمة علاقة بين تأخر الفطام و الذكاء , أمي - لأنها أمي - تؤمِّن على هذا بذات القدر من الحماسة في كل مرة , فقط لتروي لهم ضاحكةً كيف أفلتُ ثديها , و انزلقتُ من حجرها بسرعةٍ خاطفة قبل أن أستوي على البلاط , و أنا أرمق بحنقٍ بالغ خالي الذي كان يقول بأن الرضاعة لأمثالي من " الفتوات " الكبيرات حرام " الله بدخلك النار " । و كيف ركضتُ إلى باب " برندة " بيت جدي , ثم وقفتُ في منتصف " الحوش " عارية القدمين , باحثةً عن الله الذي ظننته لن يراني تحت سقف " البرندة " , قبل أن أرفع ذراعيَّ إلى السماء , قائلة في غضبٍ طفولي : " برضع برضع يا الله " ! । عندما أقول للناس بأنني لا زلتُ أذكر يوم فطامي بوضوح , يُصابون بالدهشة , ثم يتضاحكون في تكذيبٍ مُهذَّب । لكنِّي أذكر ذلك اليوم جيداً ! । يومها وضعَتْ أمي على ثديها قليلاً من "العجين المُر" لتجبرني على كراهية حليبها اللذيذ । لا تزال أمي تضحك بدهشة متجددة كلما ذكرتها بهذا ! . أما الذي يدهشني أنا فتضاحك الناس و تكذيبهم المهذب . فإلى جانب كون فطامي قد تحقق بعد لأي , و في سن متأخرة , حيث كنت أرضع ثم آكل الطعام و أمشي في الأسواق , بل و " أتفاصح " قبل أو في أثناء طقوس الرضاعة . و قد كنت أتخذُ من ثوب أمي غطاءاً أحمي به خصوصيتي من أعيُن الفضوليات المتظارفات من خالاتٍ و جارات , و إن بقيت صيحاتُهن المُنكِرة تَصِلُ إلىّ غير منقوصة , مخترقةً بسماجَتِها دِرْعِي القُماشي الواهي ! . كيف أنسى تلك الساعات التي ملأتُها بصُراخي و شَهَقاتي , و اختلط فيها مِلْحُ دموعي بالعجين المُر ؟! . ثم , كيف لا يذكر المرء أول صفعة في مشوار الحياة ؟! . كيف ينسى أول احتكاك حقيقي مع فكرة الإدراك لمعنى الممكن و المتاح , و المفروض المهيمن علينا و إن لم نقبل به ؟! . و المرغوب الذي قد لا نلقى إليه سبيلاً ؟! , و أن ما يرام قد لا يكون متاحاً , و أن المتاح المبذول هو في الغالب على غير ما يرام ؟! . حتى اليوم لا زلتُ أذكر ساعات فطامي , و حتى اللحظة لا شئ يعدلُ لذة الرضاعة عندي سوى روعة القراءة , و لا شئ يُماهي ذلك التَلمُّظ الماهل بعد رضعةٍ مُشبِعَة إلا تَلمُّظ العقل بعد قراءة نَصٍ جَيِّد ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيلولة - صحيفة الرأى العام - 2007

No comments: