Sunday, 2 September 2007

شـرور صغيرة !


أعترف اليوم بخطأ إحدى نظرياتي التي كنت أسعى جاهدةً - طوال الوقت - لإثباتها، لقد حيَّرني (بنو آدم) بطبائعهم الغريبة و أطفئوا حماسي لفلسفة شرورهم ! .
فقد كنت دوماً أقول بأن الغربة كالماء المالح تعمل على تكوين طبقة (كِلْسيَّه) فوق معادن الناس بمرور الزمن، و بأن هنالك علاقة طردية بين (سُمك) تلك الطبقة و قوة شخصية المغترب و بالتالي قوة مقدرته على اجتياز امتحان الغربة دون أن تطمُس بمرارتِها طبائعه الأصيلة ! .

أما زوجي فله نظرية أخرى - يتقاطع مفهومها مع نظريتي تلك - مفادها : أن الغربة كالنار تُذيب البريق الزائف عن معادن الناس فتُظهر حقيقتهم الكامنة خلف الأقنعة ! .

كنت دوماً أقول له - مازحةً - بأنه سيأتي يوم نخوض فيه تجربة مشتركة تثبت صحة نظريتي و خطأ نظريته، إلى أن جاءتنا تلك التجربة تمشي على قدمين ! .

أحد أولئك الذين يقول عنهم زوجي بأن (نيران) الغربة قد أظهرت حقيقتهم المؤسفة كان جاراً لأحد أصدقاءنا، و على الرغم من أن العلاقة لم تكن تتجاوز السلام و السؤال عن الحال فقد ألحق بنا ذلك الرجل الكثير من الأذى، ما جعل زوجي يتخذه مثالاً لإثبات نظريته تلك .
و عندما كان يذكر ذلك كنت أقول له بأن ذلك (الشر) الذي يظهر في سلوك الرجل ما هو إلا (تكلُّس) مؤقت السبب فيه مرارة الغربة (و كدا) ! .

إلى أن جاء يوم أخبرني فيه بعد عودته من العمل بأن ذلك الرجل - الذي كان (شديد البخل) - قد زاره في المستشفى و رجاه أن يساعده في عمل فحوصات مجانية لوالدته المريضة و من ثم مساعدته في صرف علاج مجاني لها ! .
و لأن بيتنا يقع بالقرب من المستشفى ستمكُث والدته و زوجته عندنا لحين ظهور النتائج .
كانت الجلسة كمحاضر الشرطة، والدته تلقي بالسؤال و تتلقَّف إجاباتي لتصنع منها سؤالاً جديداً بينما ظلت الزوجة صامتةً كالأسماك تدوِّن ذلك الحوار في ذاكرتها حتى تقوم بإذاعته في إحدى الجلسات النسائية عما قريب كعادتها ! ..
و هما تعاملان بعضهما بنفور حيَّرني كثيراً ! .

كانت الأم ترمقني بنظراتٍ فاحصة سَمِجة - جعلتني أزداد قناعة بموضوعية سارتر عندما وصف الآخرين بأنهم جحيم ! – قبل أن تقول بلهجة ذات مغزى :
- بس أوعِي راجلك دا يقوم يجيب أمُّـو ! ..
- و ليه (أوعَي) يا خالة ؟! .. يا ريت هي ترضى تجي .. نحن لاقينها وين ؟! ..
- بري .. أحسن ما تجي تقوم تضايقكم ساكت ! ..
- لا .. لا .. ما بتضايقنا .. على العكس تشرّفنا و تونِّسنا ! ..

انتهى المحضر بانتهاء الزيارة بعد أن يئست هي من الإيقاع بي ! .
و ما أن عاد زوجي إلى البيت مساءاً حتى صاح قائلاً و هو يضحك :
- عارفة أمُّو قالت لي شنو ؟! ..
- أها ؟! ..
- قالت لي المرة دي ما تقوم تنسِّيك أمَّك .. أعمل حسابك .. جيب أمَّك تتونس معاك ! ..

و عندما أخبرته بما نصحتني به في هذا الصَّدد قال و هو يضحك بظفر :
- اعترفي إنو نظريتك أثبتت فشلها .. الشَّر بتاع الزول دا وراثة .. لا غُربة .. لا تَكلُّس ! ..
- على العموم دي شرور صغيرة .. الله يكفينا الشرور الكبيرة !..
- اعترفي ! ..
- طيِّب اعترفت ! ..

ها أنا ذي أعترف بخطأ نظريَّتي । فالزبون و المدير و الزوج دوماً على حق !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - جريدة الرأى العام - 2007


No comments: