في مقاله العميق : (كيف تُكتب الرواية) يقول الأديب الكولومبي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز : " ... إن تمزيق القصص القصيرة أمر لا مناص منه لأن كتابتها أشبه بصب الأسمنت المسلح أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر، و هذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها، بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك إذ يمكن العودة للبدء فيها من جديد ... " ! . لقد حدثنا ماركيز عن طقوس كتابة القصة و الرواية في مقال أنيق .
لكن .. ماذا عن طقوس كتابة مثل ذلك المقال ؟! .
وددت لو كتب لنا شيئاً عن تجارب الأدباء - الذين يرسمون نصوصهم الأدبية وفقاً لطقوس تأخذ خصوصيتها من طبيعة هذا النوع من الخلق - مع كتابة المقال التي قد تفرض عليهم طقوساً من نوع آخر .
ربما لأن الشائع هو تحول الأدباء إلى كتابة المقالات الدورية في الصحف و المجلات و نجاحهم الكبير في هذا، بينما من النادر أن يتحول كاتب المقال إلى كتابة النصوص الأدبية ثم تكون النتيجة أن يوازي إنجازه في هذا الصدد نجاحه في كتابة المقال ! .
لا شك أن الفرق بين كتابة النص الأدبي و صناعة المقال يكمن في بعض التفاصيل الطريفة و العميقة في آنٍ معاً ! .
فـ كتابة المقال حالة ذهنية أو عمل يومي من المُعاش، بمعنى أن الكاتب لا ينفصل عن الواقع بل يظل يشرح و يفنِّد إشكاليات هذا الواقع، ثم يقترح لها الحلول .
أي أن تأثر الكاتب بواقعه و تأثيره في مجرياته هو أمر مرهون بالمعاصرة في مثل هذا النوع من الخلق . بينما يمكننا القول بأن النص الأدبي هو نوع من أنواع الخلق المفتوح أو المُشرع على عالم الخيال، فالكاتب قد يلوِّن الواقع و قد يتفنن في تجريده و قد يقوم بطرحه كما هو . ثم أنه قد يستعيض عن كل هذا باقتراحه لعوالم أخرى جديدة .
فالخيال هو طفل النص الأدبي المدلل بينما هو عدو المقال اللدود ! . و الموضوعية التي تكون شرطاً في تقبل القارئ لفكرة المقال، قد تجنح بقارئ النص الأدبي إلى الملل ! .
إن الكتابة النخبوية أو المعقدة قد ترفع في كثير من الأحيان من شأن كاتب النص الأدبي و قد تضمن له العظمة و الخلود مثلما فعلت رواية (الصخب و العنف) فقد اعتبرها النقاد معجزة حققها خيال الروائي العظيم (وليم فولكنر) الذي اضطر إلى كتابة ملحق في طبعتها الجديدة يشرح فيه بعض غموضها للقراء ! .
هنا رفع الغموض من شأن (فولكنر) ، في الوقت الذي رفعت فيه البساطة من شأن الكاتب الكبير (توفيق الحكيم) الذي حقق الخلود أيضاً لا بغموض أسلوبه بل بلغته البسيطة في كتابة المقال !.
إذاً الغموض في كتابة المقال يكون بمثابة جدار يفصل بين كاتبه و قارئه ، بينما هو في النص الأدبي غلالة رقيقة منسدلة على جسد النص، و هي لا تفسد رؤية القارئ لما خلفها بل تضفي عليه المزيد من السحر ! .
و في كتابة النص الأدبي يجتهد الكاتب في ضمان الخلود لنصه الذي يتغذى من وجوده فيتخلَّق باعتباره كياناً مستقلاً منفصلاً عن كاتبه، لدرجة أن القارئ قد يُخلِّد شخصية ابتدعها خيال كاتب في الوقت الذي لا قد يحتفي به على النحو الذي يستحق، كما حدث مع شخصية (شيرلوك هولمز) التي خلقها خيال (السير آرثر كونان دويل) تلك الشخصية التي طغت شهرتها على شهرته .
و قد يكون (دويل) أول كاتب في التاريخ تنهشه الغيرة من شخصية صنعها خياله و قد اتخذ قراراً بموتها لهذا السبب، عندها جاءته آلاف الرسائل - من القراء الغاضبين الساخطين على فعلته - مطالبة إياه بأن يبعث (شيرلوك هولمز) إلى الحياة، فما كان منه إلا أن فعل ! .
يحدث هذا مع النصوص الأدبية بينما تلعب المقالات دور السلالم في إيصال كاتبها إلى كرسي الخلود فلا يتذكر الناس مقالاً بعينه منفصلاً عن كاتبه بل يرددون أن هذا الكاتب يكتب أشياء عظيمة ! .
و قد يكون إجماع الناس على عظمة كاتب النص الأدبي أسهل بكثير من إجماعهم على عظمة كاتب المقال، ربما لأن المرجعيات النقدية التي يتكئ عليها القراء العاديون و النخبويون على حد سواء في تقييم النص الأدبي ثابتة و متشابهة نوعاً، بينما في كتابة المقال لا يمكن للكاتب بأية حال أن يرضي جميع الأذواق، فالذي يُرضي القارئ النخبوي قد يحصُد امتعاض القارئ البسيط، و الذي يعجب القارئ العادي قد يثير استياء القارئ المثقف و هكذا ...
و بينما تكون استمرارية الكتابة هي الضمان الأوحد لنجاح كاتب المقال قد يحقق كاتب النص الأدبي العظمة و الخلود بكتابة نص واحد ! .
فـ كاتب المقال هو بستاني يحصد من الثمر على قدر ما يبذل من جهد في الغرس و الري و التلقيح و التشذيب، و إن هو غفل عن غرسه يوماً ضاع جهده ! .
بينما كاتب النص الأدبي هو مهندس و عامل بناء في آنٍ معاً، و قد يشيد هذا المهندس العامل مبنى واحداً يكون مزاراً و ضريحاً يحكي عن عظمته إلى الأبد !
لكن .. ماذا عن طقوس كتابة مثل ذلك المقال ؟! .
وددت لو كتب لنا شيئاً عن تجارب الأدباء - الذين يرسمون نصوصهم الأدبية وفقاً لطقوس تأخذ خصوصيتها من طبيعة هذا النوع من الخلق - مع كتابة المقال التي قد تفرض عليهم طقوساً من نوع آخر .
ربما لأن الشائع هو تحول الأدباء إلى كتابة المقالات الدورية في الصحف و المجلات و نجاحهم الكبير في هذا، بينما من النادر أن يتحول كاتب المقال إلى كتابة النصوص الأدبية ثم تكون النتيجة أن يوازي إنجازه في هذا الصدد نجاحه في كتابة المقال ! .
لا شك أن الفرق بين كتابة النص الأدبي و صناعة المقال يكمن في بعض التفاصيل الطريفة و العميقة في آنٍ معاً ! .
فـ كتابة المقال حالة ذهنية أو عمل يومي من المُعاش، بمعنى أن الكاتب لا ينفصل عن الواقع بل يظل يشرح و يفنِّد إشكاليات هذا الواقع، ثم يقترح لها الحلول .
أي أن تأثر الكاتب بواقعه و تأثيره في مجرياته هو أمر مرهون بالمعاصرة في مثل هذا النوع من الخلق . بينما يمكننا القول بأن النص الأدبي هو نوع من أنواع الخلق المفتوح أو المُشرع على عالم الخيال، فالكاتب قد يلوِّن الواقع و قد يتفنن في تجريده و قد يقوم بطرحه كما هو . ثم أنه قد يستعيض عن كل هذا باقتراحه لعوالم أخرى جديدة .
فالخيال هو طفل النص الأدبي المدلل بينما هو عدو المقال اللدود ! . و الموضوعية التي تكون شرطاً في تقبل القارئ لفكرة المقال، قد تجنح بقارئ النص الأدبي إلى الملل ! .
إن الكتابة النخبوية أو المعقدة قد ترفع في كثير من الأحيان من شأن كاتب النص الأدبي و قد تضمن له العظمة و الخلود مثلما فعلت رواية (الصخب و العنف) فقد اعتبرها النقاد معجزة حققها خيال الروائي العظيم (وليم فولكنر) الذي اضطر إلى كتابة ملحق في طبعتها الجديدة يشرح فيه بعض غموضها للقراء ! .
هنا رفع الغموض من شأن (فولكنر) ، في الوقت الذي رفعت فيه البساطة من شأن الكاتب الكبير (توفيق الحكيم) الذي حقق الخلود أيضاً لا بغموض أسلوبه بل بلغته البسيطة في كتابة المقال !.
إذاً الغموض في كتابة المقال يكون بمثابة جدار يفصل بين كاتبه و قارئه ، بينما هو في النص الأدبي غلالة رقيقة منسدلة على جسد النص، و هي لا تفسد رؤية القارئ لما خلفها بل تضفي عليه المزيد من السحر ! .
و في كتابة النص الأدبي يجتهد الكاتب في ضمان الخلود لنصه الذي يتغذى من وجوده فيتخلَّق باعتباره كياناً مستقلاً منفصلاً عن كاتبه، لدرجة أن القارئ قد يُخلِّد شخصية ابتدعها خيال كاتب في الوقت الذي لا قد يحتفي به على النحو الذي يستحق، كما حدث مع شخصية (شيرلوك هولمز) التي خلقها خيال (السير آرثر كونان دويل) تلك الشخصية التي طغت شهرتها على شهرته .
و قد يكون (دويل) أول كاتب في التاريخ تنهشه الغيرة من شخصية صنعها خياله و قد اتخذ قراراً بموتها لهذا السبب، عندها جاءته آلاف الرسائل - من القراء الغاضبين الساخطين على فعلته - مطالبة إياه بأن يبعث (شيرلوك هولمز) إلى الحياة، فما كان منه إلا أن فعل ! .
يحدث هذا مع النصوص الأدبية بينما تلعب المقالات دور السلالم في إيصال كاتبها إلى كرسي الخلود فلا يتذكر الناس مقالاً بعينه منفصلاً عن كاتبه بل يرددون أن هذا الكاتب يكتب أشياء عظيمة ! .
و قد يكون إجماع الناس على عظمة كاتب النص الأدبي أسهل بكثير من إجماعهم على عظمة كاتب المقال، ربما لأن المرجعيات النقدية التي يتكئ عليها القراء العاديون و النخبويون على حد سواء في تقييم النص الأدبي ثابتة و متشابهة نوعاً، بينما في كتابة المقال لا يمكن للكاتب بأية حال أن يرضي جميع الأذواق، فالذي يُرضي القارئ النخبوي قد يحصُد امتعاض القارئ البسيط، و الذي يعجب القارئ العادي قد يثير استياء القارئ المثقف و هكذا ...
و بينما تكون استمرارية الكتابة هي الضمان الأوحد لنجاح كاتب المقال قد يحقق كاتب النص الأدبي العظمة و الخلود بكتابة نص واحد ! .
فـ كاتب المقال هو بستاني يحصد من الثمر على قدر ما يبذل من جهد في الغرس و الري و التلقيح و التشذيب، و إن هو غفل عن غرسه يوماً ضاع جهده ! .
بينما كاتب النص الأدبي هو مهندس و عامل بناء في آنٍ معاً، و قد يشيد هذا المهندس العامل مبنى واحداً يكون مزاراً و ضريحاً يحكي عن عظمته إلى الأبد !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيلولة - مجلة الخرطوم الجديدة - 2007
No comments:
Post a Comment