في الخرطوم التي يحدث فيها كل شيء، عندما كان عام 96 يودع نصفه الأول، و ذات نهارٍ محايد استأجرنا – صديقتاي و أنا – سيارة أجرة لتُقلَّنا إلى (مشتل زكي) الذي كان ينفرد بإنتاج باقات الورد الطازجة ! . وقتها لم تكن الخرطوم تعج بمحلات بيع الورد المنتشرة الآن .
كنا ذاهبين لعيادة إحدى صديقاتنا المريضات، ولأننا من الذين عاشوا و ترعرعوا خارج البلد لم تكن معرفتنا بالطرق و الشوارع كافية، الأمر الذي أثار تذمر السائق العجوز :
- إنتو ماشين ياتو (بيت) هنا بالضبط ؟!
- ما (بيت) يا (عمُّو) .. مشتل !
- عاوزين تشتروا زرع ؟!
- لأ .. عاوزين نشتري ورد .. عندنا صاحبتنا عيانة و ماشين نزورها !
- ورد شنو ؟! .. هسه كان إشتريتو ليها كيسين فاكهة ما كان أخير ليها ! .
في طريق العودة و بينما كان السائق العجوز يرمقنا بامتعاض – من خلال المرآة - كنا نحن نتأمل بابتسامات طفولية باقات الورد البديعة تلك و قطرات الماء المتناثرة عليها كحبات اللؤلؤ ! .
كانت صديقتنا تلك تقطن في الجانب الآخر من شارع المعرض الذي يمتد بين (منطقة بري) و حي (جاردن سيتي) و كأنه يُمهِّد بامتداده لذلك التطرُّف الواضح بين مظهر البيوت العادية الُمتراصَّة على مرمى حجر منه و تلك البيوت ذات الأناقة الغامضة على الجانب الآخر .
و على الرغم من قوة المودة التي كانت تربطنا بتلك الصديقة لم يكن لدينا علمٌ كافٍ بوضعها المادي، و لم يحدث أن ذهبنا لزيارتها، فقط هي التي كانت تزورنا في الداخلية التابعة لجمعية المغتربين حيث نسكن، و أذكر أنها كانت تستعير منِّي بعض الكتب ثم تعيدها بانتظام، و لا أظن أن فتاة في مثل عمرينا وقتها قد تعقِّب على كاتب أو كتاب بمثل ما كانت تقول بعد قراءتها لهمنجواي و فولكنر و تولستوي و فلوبير !.
إنما لم يحدث قط أن دعتنا لزيارتها و لم يحدث أن أبدينا رغبة بذلك .
إلى أن جاء يوم افتقدنا فيه زياراتها بعد غياب عدة أيام، سألنا عنها صديقتها التي كانت تعمل في محل اتصالات قريب فأخبرتنا بأنها مريضة، أخذنا العنوان ثم ذهبنا للاطمئنان عليها.
كان المنزل متواضعاً ينم عن فقر مدقع الأمر الذي فاجأنا كثيراً . و برعونة الذين يعيشون على هامش الواقع ذهبنا لعيادتها محملين بالورود و لم نفكر قط في احتمال حاجتها للمال، لعله صغر السن و قلة المعاصرة لأوضاع الناس في البلد، أو ربما لأنها لم تشعرنا يوماً بأنها فقيرة .
يومها تمنينا لها عاجل الشفاء ثم خرجنا مطرقين يغمرنا الخجل و باقات الورد تلك مكدسة بغباء على طاولة قريبة بجانب سريرها !.
و عندما حاولنا أن نساعدها ببعض المال نظرت تلك الصديقة بازدراء إلى المظروف الملون الذي كانت عليه صورة (دبدوب) - يطير في الهواء و هو يحمل بالوناً و يبتسم في غباء - قبل أن تعيده إلينا برفض حاسم ! . و منذ تلك اللحظة لم نعد نراها كثيراً ! .
بعد مرور سنوات قابلتها مصادفةً و افترقنا على وعد بلقاء قريب . و عندما أتت لزيارتي قادتنا (الونسة) إلى ذلك اليوم فحدثتها عن امتعاض سائق التاكسي من باقات الورد و اقتراحه الفاكهة كهدية أكثر واقعية و عملية . عندها فوجئت بها تخبرني كيف أنهم في ذلك اليوم لم يكونوا يملكون قوت يومهم بالمعنى الحرفي للجملة ! . ثم كيف منعها التعفف من قبول ذلك المال الذي جمعناه لأجلها . كانت تقول ذلك و هي تضحك بقناعة آلمتني .
ما أدرانا وقتها بأن العالم أكثر تعقيداً و قبحاً مما كنا نظن ؟! ॥اليوم و بعد أن انتقلنا من تدليل الآباء غير المشروط إلى مشاركة الأزواج التزامات الحياة أدركنا كم كانت باقات الورد تلك خياراً ساذجاً !
كنا ذاهبين لعيادة إحدى صديقاتنا المريضات، ولأننا من الذين عاشوا و ترعرعوا خارج البلد لم تكن معرفتنا بالطرق و الشوارع كافية، الأمر الذي أثار تذمر السائق العجوز :
- إنتو ماشين ياتو (بيت) هنا بالضبط ؟!
- ما (بيت) يا (عمُّو) .. مشتل !
- عاوزين تشتروا زرع ؟!
- لأ .. عاوزين نشتري ورد .. عندنا صاحبتنا عيانة و ماشين نزورها !
- ورد شنو ؟! .. هسه كان إشتريتو ليها كيسين فاكهة ما كان أخير ليها ! .
في طريق العودة و بينما كان السائق العجوز يرمقنا بامتعاض – من خلال المرآة - كنا نحن نتأمل بابتسامات طفولية باقات الورد البديعة تلك و قطرات الماء المتناثرة عليها كحبات اللؤلؤ ! .
كانت صديقتنا تلك تقطن في الجانب الآخر من شارع المعرض الذي يمتد بين (منطقة بري) و حي (جاردن سيتي) و كأنه يُمهِّد بامتداده لذلك التطرُّف الواضح بين مظهر البيوت العادية الُمتراصَّة على مرمى حجر منه و تلك البيوت ذات الأناقة الغامضة على الجانب الآخر .
و على الرغم من قوة المودة التي كانت تربطنا بتلك الصديقة لم يكن لدينا علمٌ كافٍ بوضعها المادي، و لم يحدث أن ذهبنا لزيارتها، فقط هي التي كانت تزورنا في الداخلية التابعة لجمعية المغتربين حيث نسكن، و أذكر أنها كانت تستعير منِّي بعض الكتب ثم تعيدها بانتظام، و لا أظن أن فتاة في مثل عمرينا وقتها قد تعقِّب على كاتب أو كتاب بمثل ما كانت تقول بعد قراءتها لهمنجواي و فولكنر و تولستوي و فلوبير !.
إنما لم يحدث قط أن دعتنا لزيارتها و لم يحدث أن أبدينا رغبة بذلك .
إلى أن جاء يوم افتقدنا فيه زياراتها بعد غياب عدة أيام، سألنا عنها صديقتها التي كانت تعمل في محل اتصالات قريب فأخبرتنا بأنها مريضة، أخذنا العنوان ثم ذهبنا للاطمئنان عليها.
كان المنزل متواضعاً ينم عن فقر مدقع الأمر الذي فاجأنا كثيراً . و برعونة الذين يعيشون على هامش الواقع ذهبنا لعيادتها محملين بالورود و لم نفكر قط في احتمال حاجتها للمال، لعله صغر السن و قلة المعاصرة لأوضاع الناس في البلد، أو ربما لأنها لم تشعرنا يوماً بأنها فقيرة .
يومها تمنينا لها عاجل الشفاء ثم خرجنا مطرقين يغمرنا الخجل و باقات الورد تلك مكدسة بغباء على طاولة قريبة بجانب سريرها !.
و عندما حاولنا أن نساعدها ببعض المال نظرت تلك الصديقة بازدراء إلى المظروف الملون الذي كانت عليه صورة (دبدوب) - يطير في الهواء و هو يحمل بالوناً و يبتسم في غباء - قبل أن تعيده إلينا برفض حاسم ! . و منذ تلك اللحظة لم نعد نراها كثيراً ! .
بعد مرور سنوات قابلتها مصادفةً و افترقنا على وعد بلقاء قريب . و عندما أتت لزيارتي قادتنا (الونسة) إلى ذلك اليوم فحدثتها عن امتعاض سائق التاكسي من باقات الورد و اقتراحه الفاكهة كهدية أكثر واقعية و عملية . عندها فوجئت بها تخبرني كيف أنهم في ذلك اليوم لم يكونوا يملكون قوت يومهم بالمعنى الحرفي للجملة ! . ثم كيف منعها التعفف من قبول ذلك المال الذي جمعناه لأجلها . كانت تقول ذلك و هي تضحك بقناعة آلمتني .
ما أدرانا وقتها بأن العالم أكثر تعقيداً و قبحاً مما كنا نظن ؟! ॥اليوم و بعد أن انتقلنا من تدليل الآباء غير المشروط إلى مشاركة الأزواج التزامات الحياة أدركنا كم كانت باقات الورد تلك خياراً ساذجاً !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - صحيفة الرأى العام - 2007
No comments:
Post a Comment