رحلة الطبيب السوداني (النَّمَطي) تبدأ غالباً منذ الصِّغر و بتشجيع من أفراد المجتمع المحيط و أولهم أسرته، فما أن تبدو على الطفل إمارات الذكاء حتى يسارع بعض المتحمسين إلى التنبؤ بأنه سيصبح في المستقبل (دكتور كبير) !
و ما أن يُلقي أي ضيف يعبر (صالون) بيتهم يوماً بذلك السؤال التقليدي عما يود أن يكونه الطفل الذي يتنطط حوله في المستقبل
حتى تخرج الإجابة النموذجيَّة (الجاهزة) من بين الأسنان اللَّبنية نصف المهشمة :
- دكتور !
بعدها يختار طفل الأمس الذي أصبح مراهق اليوم كلية الطب فيهرع أفراد عائلته إلى مناداته بـ ( يا دكتور) و يطلبون منه بفرح طفولي أن (يقيس ليهم الضغط) و هو لا يزال (برلوم مفعوص) .. ثم تمضي السنوات و يتخرج (البرلوم) فيفرحون فرحاً عظيماً مبالغاً فيه !
طائعاً أو مرغماً يقوم ذلك الطبيب اليافع بتخزين ذلك التهليل و (التكبير) في خلايا مخه الرمادية و يجد نفسه يقوم باستحضاره دونما وعي منه و هو يسير مزهوا بمعطفه الأبيض !
و بعد أن ينهي رحلة التخصُّص قد يقضي سنوات طويلة من حياته في الخارج ( أوربا .. أمريكا .. إلخ ..) قبل أن يعود ليجلس على ذلك الكرسي الأنيق في إحدى العيادات ذات التذاكر الفادحة الثمن !
هنا .. و هنا فقط .. تظهر الحقيقة الموجعة التي تقول بأن (الكثير) من هؤلاء الأطباء الذين يمشون على (الصراط المستقيم) أينما كانوا في الخارج ما أن تطأ أقدامهم أرض (الوطن) حتى يطوحون بالدقة و النظام و التمسك الصارم بالواجبات و بحقوق المريض القانونية و الأخلاقية إلى أقرب (سَهَلَة) ثم يتحولون بقدرة قادر إلى أشخاص عشوائيين حد الاستهتار بأجساد البشر التي كرمها الله !
و بينما يدلل الكثير من هؤلاء الأطباء الكبار مرضاهم في الخارج و يراعون بدقة متناهية أبسط حقوقهم خوفاً من المساءلة الأخلاقية و قوانين المسئولية التقصيرية و قضايا التعويضات ينقسم المرضى المحليون بحسب رؤية بعض هؤلاء الأطباء فيما يختص بكيفية (المعاملة) في غرف الكشف إلى ثلاث فئات ..
- مرضى جهلة و أميون و (ناس الله) و هؤلاء لا يستحقون عناء الشرح و الإيضاح لانعدام النديَّة الفكرية و الاجتماعية !
- أنصاف المتعلمين الذين يكثرون من الاستماع إلى برامج الراديو ويستخدمون كلمات على غرار (أفتكر) و (في الحقيقة) و هؤلاء يجب قمعهم بتوجيه الكلام بـ صيغة الأمر و المقاطعة الصارمة لشكواهم المطولة و الردود (المسيخة) على تساؤلاتهم المملة !
- المتعلمين (جامعي فما فوق) و هؤلاء - بدورهم - ينقسمون إلى (أ) و (ب)
- (أ) و هم فئة المرضى من أصحاب المهن و التخصصات الأخرى (عدا مهنة الطب) و هؤلاء يتظارفون كثيراً و (يرفعون الكلفة لشعورهم بالنديَّة الأكاديمية و الفكرية و يستخدمون كلمات بالإنجليزية على غرار (بيشنت) و (أنتي بايوتيك) و (أنتي هيستامين) و (أنتي أسيد) و هؤلاء يجب إيقاف تبسطهم و انشراحهم بالنظرات الباردة و الجمل الحاسمة القاطعة و ذلك حتى لا تسول لهم أنفسهم السؤال عن أمر آخر غير (روشتة) الدواء !
- (ب) و هم فئة زملاء المهنة و هؤلاء يجب التعامل معهم بقدر معقول من (الود المتعالي) و هو مزيج من الترحيب و (الأنفة) المهنية التي تلعب نفس الدور الذي يمكن أن تؤديه جملة ( إنت هنا "بيشنت" زيك زي غيرك) !
و هكذا .. تستمر معاناة المواطن بكل فئاته : المطحون و المجروش و الموازي و الأفضل حالاً مع صلَف و استهتار وعشوائية كثير من الدكاترة الكبار الذين (لا) تصيبهم لعنة العشوائية (إلا) داخل الحدود الإقليمية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007
No comments:
Post a Comment