Thursday 31 May 2007

أبجديات القبول (1) ... و هؤلاء من يُصلح حالَهم يا " رورو " ؟ !


كلُّ حركة في هذا الكون إذا وُظِّفَتْ في مكانها الصحيح تُؤتي أكُلَها حتماً , و إن هي حدثَتْ بلا داعٍ تُصنّف ضرباً من العَتَه , أو أنها – في أفضل الأحوال – قد توحي بذلك . كسيدة من بلاد " القوقاز " مثلاً , إذا ما قمتُ بفتح جهاز التلفاز فرأيتُ – على شاشته - شخصا يهزُّ رجله على نحوٍ قَلِق , و هو إلى جانب هذا يتحدث مُقطِّباً , سأجزم على الفور بأنه إما مجنون أو على تخوم العته ! . عندها لن يجدي - في حكمي عليه - كونه يشرح نظرية "البروسترويكا" و عظيم تأثيرها على الاقتصاد الروسي الذي يدخل في دائرة اهتمامي كوني سيدة قوقازية ! . و عليه فـإن هَـزَّ الأرجل كحركة بشرية قد يؤتي أُكُلَه مع الخياطين فيصنعون بإيقاع الهز على الماكينات أثواباً أنيقة , و مع النسَّاجين فيخرجون علينا بمنسوجات عالية الجودة , أما في حال السَّاسة من رؤساء و وزراء و مدراء و سفراء , أولئك الذين اختاروا أن يكونوا " في الواجهة " أو على " الخط الساخن " جُلَّ أوقاتهم , فإن الهز كحركة بشرية يصبح من قبيل ما ذكرنا آنفاً ! . قال تعالى : " في ظلال على الأرائك متكئون " , أي أن الاتكاء - و قد يدخل في مضمونه الاضطجاع أو الرقاد كأفعال بشرية مريحة و ماتعة - هو مما كافأ به الله عباده المؤمنين في الجنة , و لو كان الاتكاء من الأمور العادية التي درجنا على تكرارها بمناسبة و بغيرها , و في أي محفل , و على أي وجه , لما اعتُبِر ذلك من نعيم الجنة ! . أقول هذا لأن الاضطجاع و الاتكاء أو حتى الرقاد على الكراسي مَسلكٌ يتَفنّن ساستُنا فيه بمهارة لا تخلو من طرافة ,فهم وحدهم الذين يتململون و يتقلبون فوقها في معظم المحافل و المؤتمرات, بل أن منهم من يتخذ أوضاعاً جانبية شديدة التعقيد تفوق الجلوس على الكراسي - بظهور معتدلة - صعوبةً . هذا مع التنوع في كيفية ارتماء جانب الوجه على باطن أحد الكفين . و لا يهم إن كان ذلك في قاعة الصداقة , أو الألبرت هول , أو حتى البيت الأبيض ! . و حتى يُعطَي اجتهادي هذا القدر الذي يستحقه من افتراض الأهمية و الخطورة , أقول بأن معظم المفكرين و دعاة الإصلاح قد أرجعوا الكثير من المشكلات القومية في بلادهم , و التي كان لها تأثير ظاهر على إنتاج شعوبهم و مكانتها و فرادتها الإقليمية إلى طبائع الفرد . فقد حدد "ماكس فريش" حسن النية اللامبالي الذي رمز له بـ " البنزين " كسبب تقتل الإنسانية به نفسها , كما خَلُص "ديرنمات" إلى أن الحياد الأناني - الذي يرمز له باللون الرمادي – هو مشكلة الشعب السويسري حيث أودى به إلى الجمود و العزلة . في الوقت الذي لخَّص فيه "فانس باكار" مشكلة الشعب الأمريكي في تحول أفراده إلى مستهلكين و بالتالي ضحايا لوسائل الإعلام حيث تقوم الشركات باستخدام الإذاعة و التلفاز للترويج للسلع التي رمز لها بـ " السيارات " . و عليه إذا ما حاولنا تشييء تلك المشاكل في صورة أيقونات نجعل منها رموزاً لها بحسب فلسفات هؤلاء المفكرين فـ يمكننا أن نقول بالآتي : مشكلة الإنسانية رمزها جالون بنزين , و مشكلة أمريكا رمزها سيارة , و مشكلة سويسرا رمزها بقعة لون رمادي . بينما مشكلة السودان – في تقديري – رمزها سرير ! . و ما الدول و شعوبها إلا شخصيات اعتبارية تتألف من أفراد تُشكِّل جاذبيتهم أو عدمها الملامح العامة لعوامل الجذب أو الإخفاق السياسي . و لعل هذا هو السر في كاريزما " لبنان" كدولة , أو السر في ذلك التكالب العربي المُنبَهر عليها, فما أن تتَهدّم مبانيها بفعل مسلسل الحرب الأهلية حتى يهرع الجميع إلى التبرع بميزانية قُطر لإعادة تعميرها ! . "رورو" صديقتي اللبنانية ناقشت معي - ذات ونسة - كيف أن صناعة السّاسة في لبنان - كما في معظم دول العالم - صناعة نجوم . ماذا تلبس و كيف تجلس و تأكل و تتحدث ؟ . كيف تتغلب على الحرَج ؟ . كيف تكون مقنعاً و متى تصبح مُفحِماً ؟ . كيف تَتبسَّم على نحو مدروس و كيف تتظاهر بالقلق أو الحزن إذا لزم الأمر ؟! . " ما في مجال للغَلََط ! " هكذا هتَفتْ "رورو" مع تعطيش الجيم و هي ترمُق من طرف خفي - أحد ساسة دولة السودان المنبطح على الكرسي في أثناء حوار كانت تَبثـُّه إحدى القنوات العربية ذائعة الصيت ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - يونيو - 2007 م



Wednesday 30 May 2007

" كشف الحال " على طريقة ديرنمات

مفتونة أنا بفكرة " ضعف البشر " , تستوقفني كثيراً و طويلاً مقدراتهم القاصرة في شئون الاحتمال و التجُّمل . تلك النصوص التي تُفنِّد القبح الكامن وراء الأقنعة المبذولة اتقاءاً لفضول الآخرين , الُمفتَرَض , و الشرير بدوره , لطالما خلبت لُبِّي . تلك المُناخات الفنِّية التي تُمَنطِق فكرة "السقوط" و تَسوق لها الحجج , كم هَزَّني – و لا يزال – جلالها ! . حين يكون " سقوط النفس " - المُبرَّر وفقاً لمقتضيات فنِّية - قرارا لا نُكوص عنه , و لا مجال لترميم عواقبه . أن تخون , أو تكذب , أن تَسرق , أو تَجبُن , أن تُؤثر نفسك على الأقربين بمرارة القانع بانعدام الخيار ! . أو أن لا تفعل , أن لا تكون , و ما قد يتحقق إن فعلت , و ما قد لا يحدث إن أنت أنِفْتَ عن أن تفعل ! . معيار الضياع , و ميزان الوصول , و كيف و لمـَه يتفاوت البشر الخطاءون في هذه الأحكام بقوانين الواقع , و كم أنهم لا يخضعون لذات " التحكيم " بفلسفة الفن الأخَّاذة الحَادِبة - العَادلة بعد كُلِّ هذا على وجهٍ ما - ! . يا لفتنة هذا الضعف الذي أغرى الكثيرين بالوقوف عنده تفنيدا , تحليلاً , و تصويرا . و من وقفات الفن التي على هذا النحو فلسفة " فريدريش ديرنمات " اللطيفة في تعرية الشَّـر المختبئ في نفوس أبطال مسرحياته , و اللائذ بالأقنعة لحين ظهور " تجسيم " الضمير الذي يُمزِّقُها , فَيُظْهِر - بالتضاد بين صورته الظاهرة و صورتِهَا التي أظهرها وجودُه ! – الشر الكامن خلفها . هكذا دوماً تتكشف حقائق الشر عند " ديرنمات " , إذ تعول فكرته تلك في نهوضها على مواجهات صارمة بين أبطاله , فتُعرِّي – بذلك - عَفَن طويَّة الإنسان أمام ذاته قبل الآخرين . يتحقق هذا المعنى عنده بطرائق متنوعة , أما الذي لا يتغير فهو إصراره على أن تجئ تلك التعرية في تلافيف حدث دراماتيكي ! . لقد ظل " ديرنمات " يمضغ هذا المعنى و يتلمَّظ بعدها , راضياً عنه , مستحسناً له , في كثير من كتاباته . و حُقَّ له . إذ يكسوه في كل مرةٍ ثوبا قشيباً . في مسرحيتة " زيارة السيدة العجوز " كان البَّقال يَرقُب أهل قريته و هم يحفرون قبره بحماس يزكيه إغراء أموال السيدة الثرية التي كانت تنشد الإنتقام منه بتحفيزهم على قتله , لكنها ما لبثتْ أن عفَتْ عنه , تاركةً إياه حيَّاً بين ظهراني من حكموا عليه بالموت , و تاركةً إياهم يعيشون مع عار فعلتهم أمام عيني من كادوا يقتلونه لأجل المال . " عندما سئل " ديرنمات " عما ترمز إليه العجوز الثرية في هذا النص , أجاب بأنها ضعف البشر أمام المال , ذلك الضعف الذي يُحيله الطمع المتفاقم إلى شر خالص " . و في مسرحيته " هبط الملاك في بابل " تَبعثُ السماء بفتاة جميلة , تكون هدية لأفقر رجل في بابل , تلك الفتاة لم تكن من نصيب أحد , إذ رفض الجميع التخلي عن أموالهم للفوز بها , فالكل يريدها و يريد المال , و قد رفضتهم هي لقصورهم عن شرطها , فتركتهم بذلك يكابدون خسارتها التي تُمثِّل حقيقة جشعهم للمال . و في مسرحيته " الشهاب " يقوم من مَوتَتِه الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل , و الذي أَعلنتْ الإذاعات و الصحف نبأ وفاته , فيُصاب بالهَلَع أولئك الذين في موته " كرامتُهم ", و في عودته إلى الحياة " كشف حالهم " , و أوَّلُهم الطبيب الذي أعلن وفاته ! . أما في حكاياتنا المحلية فهنالك طرفة تشبه نصه الساخر هذا على نحو مدهش ,و هي تتبنَّى ذات التوظيف الفني للفلسفة " الديرنماتية " إياها ! . كون البعث من الموت – أو على الأقل عدم تَحقُّقه – أمرٌ جَلَل من رؤية مفادها أن فيه إراقةٌ لكرامة بعضهم , و كون الموت ـ أو المضي فيه كخيار ـ هو الحل الأمثل لحفظها . إذ يُفضِّل أهل الميت الذي اتضح أنه حي - لمَّا يَمُتْ بعد - المُضي في التظاهر بموته خوفاً من "شيل الحال " , فيقبُرونه حياً لئلا يقال بأنهم لا يعرفون الموت ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـــلولة - 2007 م



Sunday 27 May 2007

الساتيا غراها بتناص سوداني رجوع عن أم رجوع إلى


لم يولد المهاتما "غاندي" في يوم "خاص" , و لم يشهد العالم تغيرات ظاهرة أو حتى طفيفة في حالة الطقس يوم ولادته , بل أتى في هدوء و عاديَّة أنيقة كمئات العظماء الذين يأتون بلا ضجيج , و يرحلون في صمت , تاركين إرثاً جليلاً يحكي الكثير عنهم دونما كلام ! . كان يَفزع من الأشباح و الهوام , و قد ظلَّت زوجته تعاني من إشعال الإضاءة في غرفة نومهما – كل ليلة - حتى الصباح لأنه كان يخاف الظلام ! . لم يكن "غاندي" (جاموس خلاء) بأية حال , بل كان نموذجاً مناسباً و مُمَنْطِقَاً لشخصية البطل المترعة بمثالب "الأنتي هيرو" التي أحيتها واقعية الفن الحديث ! . و لأن عاديته تلك لم تكن أمراً مفروضاً بل خياراً آمن به و سعى إليه , فقد حقق من خلالها مشروعه السلمي العظيم " الساتيا غراها " الذي باركته الإنسانية الحقَّة كون آلياته تتلخص في اللجوء إلى المقاومة السلبية أو اللاعنفية كوسيلة لتحقيق الإصلاح الإجتماعي و السياسي .

تغيير المواقف و الآراء السياسية ليست أموراً من شأنها أن تُقوِّض مفهوم البطولة , كما أن تغيير الرأي في - مطلق الأحوال - لأجل الأهداف القومية ليس رجوعاً عن الصواب بل هو رجوع - عملي - إليه . متكئاً على هذه الفلسفة حقق غاندي كل إنجازاته الإصلاحية بفضل واقعيته النزيهة , و تراجعه الشجاع عن آراءه التي أثبتت الأيام عدم جدواها , فوضع بذلك حجر الزاوية لديمقراطية قوية شهد العالم و لا يزال رسوخها , بينما ظلت الديمقراطية في بنجلاديش و باكستان التي كان الانفصال خيارها - في وقته - تتَملْمَل حتى الساعة . في أثناء إقامته في جنوب إفريقيا كون غاندي فرقة إسعاف هندية بهدف مساعدة الجرحى البريطانيين في حرب البوير , و قد ظلَّت فرقته تقدم الخدمات الطوعية للبريطانيين حتى في حروبهم مع "الزولو" . ظلَّ يفعل هذا على الرغم من تعاطفه العميق مع شعب الزولو باعتبارهم أسياد أرض و أصحاب حق . هل كان غاندي "ميكافيلياً " ؟ , الإجابة على هذا السؤال بالنفي أمر تكفلت به قوة الهند السياسية و الاقتصادية المتعاظمة , كما تكفلت به أضابير التاريخ التي لا تغفل شيئاً ! . و لأن البطولات السياسية ليست مواقف جذابة أو حتى داوية بل نتائج محسوبة و مرضية للشعوب و لتاريخها في النهاية , كان الرجل يرى في بريطانيا "المعبر الوحيد" لتطوير الهند , و أن الانتعاش الاقتصادي لن يكون إلا عن طريق الحفاظ على الصداقة معها . كل هذا في ظل الثبات على مبدأ أن الهند لا يجب أن يحكمها سوى الهنود .

يمكنني أن أقول بكثير من الاطمئنان بأن العالم اليوم هو "مستعمرة أمريكية" أذا وضعنا في اعتبارنا أن "امتلاك" التأييد المطلق من ِقبَلْ الآخر , أو - على الأقل - ضمان سكوته أمر يحكمه الحرص على المصالح قبل الخوف من الضرر ! . بل ربما يمكنني أن أقول ُمتَّكئةً على ذات القدر من الاطمئنان بأن "الحل" ربما يكون في "تناص" سياسي عن "ساتيا غراها " الهند نسقطه على واقعنا المحلي الذي يشهد مفهوماً مشوشاً لفكرة البطولة و الإنجاز السياسي . إن ثقافتنا التي تتكئ في خصوصيتها على موروثاتنا العرب إفريقية قد كانت و لا تزال تُضَيِّقُ الخِنَاق على أي معني قشيب لفكرة (البطولة) , و على الرغم من إدراكنا لضرورة التجديد كونه نتيجة منطقية لمتغيرات كثيرة يفرضها تعاقب الأزمان على ثوابت البشر الخطاءين , إلا إن مفهوم البطولات السياسية "عندنا" قد كان و لا يزال يسعى و يرمِل بين قرارات عاطفية تشوبها الحماسة و يكللها إقدام ساحات الوغى , و تتماهى آمالنا بشأن مردودها مع تداعيات (وامعتصماه) , و غضبات ( مضر زنجية ) لا تأبه للأخطار المحدقة , ولا تكترث لاعتبارات الحكمة المُهادِنة . أي أن (البطل) في أذهاننا حتى اللحظة هو (جاموس الخلاء) الذي لا يبقي و لا يذر . فهل من مبشِّر بمجانبة هذا الحديث لصواب نتوسم أنه قد فات علينا ؟ ! .

قيل بأن الحقيقة لا تدركها إلا عين تنظر من ربوة الأبدية على الزمن كله , و عين التاريخ تومئ إلى خلود الإنجازات الفكرية الإصلاحية , و تومئ – غامزة بمكرٍ الحاذق – إلى أن ما عداها يذهب جُفاء ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - 2007 م