Friday 14 December 2007

و الله نحن مع الطيور


في أيام الجامعة كانت لأحد زملائنا من (سناير) الكليَّات الأخرى - الذين يكثرون من التظاهر بالوسامة و الذكاء أمام (البرلومات) - مقولة طريفة كان يُطلق عليها (نظرية) !

كان ذلك الزميل يقول : إن السر في جمال معظم زميلاته - الفاضلات ! - من بنات الشهادة العربية يرجع إلى اغتراب آباءهن قبل أن يتخذوا قرار الزواج .

فـ المغترب الذي يتمكن من جمع أكبر قدر من المال يعود ليختار أجمل فتاة في العائلة، أو أجمل (بت في الحلة) و لهذا السبب فـ إن معظم زوجات المغتربين من الجميلات و بالتالي بناتهم .

بالطبع كنت أرى نظريته تلك متهالكة و مليئة بالثقوب، ربما لأن الغرض من طرحه لها بكل ذاك الحماس لم يكن لله في لله !

ثمَّ .. قبل بضعة أشهر و ذات أمسية كئيبة و بينما كنت أتحايل على ضجري بمشاهدة التلفاز شاهدتُ في (برنامج ما) على إحدى القنوات السودانية (باقة) من النساء المغتربات يتحدثن أو (يتونسن) في جلسة دائرية خلابة المنظر عن الحياة في بلاد الغربة - لم يتحدثن عن معاناة الغربة و .. ويلات الغربة بل - عن تفنُّنهن في التأقلم مع الحياة في الغربة .. و عن طقوس تزويج أبناءهن في الغربة .. و عن كيفية قضاء الأعياد في الغربة !

ثم قالت أجملهن بابتسامة راضية مُطمئنَّة :

- و الله يا جماعة .. نحن هنا لو جاتنا أي مناسبة ما بنحس بأي فرق كأننا في السودان بالضبط .. لأنو نحن هنا كلنا يد واحدة !

فـ ما كان مني إلا أن تساءلت في دهشة حقيقية لا أثر فيها للسخرية :

- هل تتحدث هذه السيدة عن المغتربات فعلاً .. أو بجملة أخرى (هل تتحدث هذه السيدة بلساني) ؟! .. إن كانت تفعل فـ يا للعجب !

من قال بأننا نعيش الغربة بكل هذه السعادة و الحبور ؟! .. و من قال إن الغربة أياً كانت معطياتها و كيفما كانت يمكن أن تكون مُرضية للحد الذي يجعلنا نهتف بكل ذلك الاطمئنان : (كأننا في السودان بالضبط ) !

تمنيت أن أسأل تلك المغتربة عن أمرين كلاهما (هام) من وجهة نظري (القابلة للخطأ و الشطط) .. كنت سوف أسألها بلهفة عن تلك المعادلة السحرية التي تجعلني أعيش ساعة واحدة في الغربة كأنني في السودان بالضبط !

أما سؤالي الثاني فسيكون عن نوع (كريم الأساس) الذي تستخدمه لأنه كان يعكس الإضاءة على بشرتها بشكل رائع طوال الحلقة .

( بـ منتهى الجديَّة أتمنى أن أعرف ماركة المكياج الذي كانت تستخدمه و هذا جزء أصيل من اهتمامات النساء) !

على كلًّ : لقد عزز حديث تلك السيدة الفاضلة من إحدى قناعاتي و التي مفادها أن الاغتراب هو (اسم الدلع) الذي يطلقه المهاجرون السودانيون على هجرتهم .. فـ هل أنا مخطئة ؟! ..

المغترب هو الشخص الذي يترك البلد وسط دموع الأهل و هو يردد من بين دموعه : ( ما مشكلة كلها كم سنة و الواحد يرجع يستقر) .. المغترب هو الذي يضع لاغترابه (خطة ما) .. خمسيَّة .. أو عشريَّة .. أو حتى عشرينية .. المهم أن يكون هنالك سقف زمني ما !

و بما أنِّي أمثل الجيل الأول ( ولا الثاني ما عارفة) من أبناء المغتربين الذين تسلمُّوا راية الاغتراب من آباءهم الذين لا زالوا مغتربين، أقول بكل صراحة و مرارة : ( نحن لسنا مغتربون .. نحن مهاجرون ) .. أما إلى متى ؟! .. فـ (الله أعلم) !

نعود إلى (ونسة) المغتربات في ذلك البرنامج .. كنت قد لاحظت أنَّهن على كثرتهن جميلات جداً .. فـ التفت إلى زميلي (صاحب النظرية) - الذي أصبح زوجي - و قلت بابتسامة مسكينة :

- و الله ما شاء الله .. الجماعة ديل بـ تنطبق عليهم نظريتك بتاعة أيام الجامعة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


صخرة سيزيف أو محاحاة القراء

جاء في الأساطير الإغريقية أن (سيزيف) الذي كان ملكاً و محارباً بارعاً و ذكياً قد ارتكب من الأفعال ما أثار غضب آلهة الأوليمب فحكمت عليه بأقسى أنواع العقاب التي يمكن أن تخطر لـ آلهة أسطورية على بال !

فقد أجبره الإله (زيوس) على أن يُدحرج صخرة عملاقة إلى قمة جبل و ما أن يصل بتلك الصخرة إلى القمة حتى تنحدر الصخرة و تسقط عند سفح الجبل، فـ يعود (سيزيف) لدحرجة الصخرة مرة أخرى إلى قمة الجبل .. و هكذا ..

لأجل هذا اعتُبر (سيزيف) البطل الأسطوري الوحيد الذي يكافح كفاحاً مريراً لإنجاز مهمة أبدية و هو يعلم علم اليقين أن لا جدوى من كفاحه لأنها سوف تكلل بالفشل !

و ما (مُتسَزيِفْ) - أكثر من (سيزيف) نفسه - إلا كاتب العمود الذي يظل يدحرج صخرة (رضا القراء) من السفح إلى القمة و من القمة إلى السفح .. إلى أجل أظنه غير مسمى .

إنما مؤكد أن هناك فرق بين (سيزيف) سيد الاسم و الكاتب (المتسزيف)، و جوهر الفرق بينهما يكمن في معنى الخيار !

فـ بينما يدحرج (سيزيف) الأصلي صخرته بمرارة القانع بانعدام الخيار يختار الكاتب أن يمضي قدماً في (محاحاة القراء) .
و على الرغم من كون هذه الدحرجة أو تلك (المحاحاة) ليست خياره الوحيد يظل إلا أنه يستعذبها دونما ملل .

فـ القارئ - أي قارئ - أينما و كيفما وجد هو طفل الكاتب المدلل، و إن كانت أسباب هذا التدليل تتفاوت من الرغبة في البقاء عند حسن ظنه لأسباب أخلاقية و مثالية بحتة .. إلى الرغبة في ذلك لأسباب مادية و مقتضيات تسويقية و توزيعية !

تتعدد الأسباب و يظل القارئ ملكاً متوجاً يحق له أن يقول بما لا يحق لغيره، و من أجل عينيه اللتين تجريان على السطور تُسل الأقلام و تسوَّد الصحف .

و لأن (رضا الناس غاية لا تدرك) كما جاء في حِكَم البشر القديمة في عهدها .. المتجددة في ثبوتها سيظل رضا (كل) القراء هو (ضخرة سيزيف) جميع الكتاب حتى ترفع الأقلام و تجف الصحف !
و قد كان لي من تلك (السزيفة) نصيب وافر عندما أعربت في مساحتي اليومية بـ جريدة حكايات عن دهشتي من أن تكون الممثلة المصرية (مديحة يسري) الـ عادية الشخصية .. عادية الثقافة هي المرأة التي حطمت قلب رجل بقيمة وقامة عباس محمود العقاد .

ثم تصادف أن كتبت في ذات المساحة في اليوم التالي عن صديقة لي لا تطيق الكتب المكدسة حولي طوال الوقت بينما أمتعض بدوري من أطقم (العدة) و (الملايات) المكدسة في بيتها .

فأخبرني أحد القراء في رسالة ساخطة بأن تنديدي بـ (عاديَّة) (مديحة يسري) و بـ نوع اهتمامات صديقتي تلك هو إفراط في الثقة بثقافتي ثم صارحني بأن حديثي هذا قد تسبب في (فقع مرارته) لا سيَّما و أن صورتي المرفقة مع العمود تدل على أني (زولة مراية) ساكت !

أما رسائل القراء التي تنتقد و تستنكر اعترافي بعدم سماع أي أغنية للجابري بصوته قبل قراءتي لإحدى مقالات ( حاطب ليل) التي كان موضوعها أغنية (سيد الاسم) فقد ظلت تنهمر على بريدي بتدفُّق غريب حتى لحظة كتابة هذا المقال !

أما (مديحة يسري) فقد قارنتُ ثقافتها بثقافة العقاد و ليس ثقافتي، و أن كان لا بد من حكاية الجمع و التكديس فالكتب أولى و أعم فائدة من أطقم (الملايات) و (العدة) . و أما (المراية) فلا ضير من أن أكون (زولتها) على أن أظل كما أنا (زولة) كتب !

و أما جهلي بصوت و أغنيات الجابري – رحمه الله – فـ دعك - عزيزي القارئ - من الذين عاشوا جل حياتهم خارج السودان مثلي و تأمل قليلاً فيمن هم حولك من (أبناء جيلي) عندها كم ستدهشك كثرة أمثالي من الجاهلين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


الشروع في المكاواة

الكثير من الكُتَّاب قفزوا إلى غُرف الأعمدة الصحفيَّة من نوافذ النصوص الأدبيَّة و النقديَّة و قد كنتُ منهم، و أول درس تعلَّمتُه هو أن الكتابة النخبويَّة التي تكون في (حالة) النص الأدبي غلالة رقيقة منسدلة على جسده تضفي عليه مزيدا من السحر، هي في (حالة) المقال (حائط رابع) يفصل بين كاتبه و عموم القراء

و أدركت أيضاً كم أنَّ كتابة (السهل الممتنع) حكاية صعبة، أصعب بكثير من الكتابة النخبوية . كان هذا ضمن دروس كثيرة في كتابة العمود الاجتماعي أدين بها إلى (المدرسة البونيَّـة) حيث المقال الموشح بالجمل الغنائية التي تخدم الأفكار و تطرِّي بطرافتها الكثير من الحقائق القاسية .

و في مدرسة (حاطب ليل) حيث لا يتعالى الكاتب على القارئ بل يأخذه في جولة حول المعنى بتواضع العلماء قرأتُ مقالاً عن أغنية (سيد الاسم) للجابري فسألت بعضهم بصدق و براءة عن هذا الجابري الذي (طقش) اسمه أذني غير مرة لكني لم أسمع له شيئا،ً و عن هذه الأغنية التي رشحها (د . البوني) لتكون على رأس الأغنيات السودانية !

لكنهم أخبروني بأن هذا الاعتراف البريء بجهلي هو ذنب ثقافي كبير، و يدخل في قبيل (الجُنَح) الثقافية التي تكون على غرار الجهل بإحدى معلقات الشعر العربي، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار أن كاتب المقال قد ذكر بأنه كان يعتزم تأليف كتاب بعنوان ( الأغنيات السودانية السبع) على وزن المعلقات السبع !

و بعد أن علمت بأن تعللي بظروف نشأتي خارج البلاد لن تسعفني قمت على الفور بـ (قوقلة) الأغنية (كتبت اسمها في محرك البحث قوقل على شبكة الانترنت) و بعد تحميلها و تأكدي من حفظها في جهازي استمعت إليها فوجدتها رائعة و تستحق أن يفرد لها أكثر من مقال !

و قد ذكرتني رمزيَّة المُنادى (سيد الاسم) في كلمات الأغنية بقصة سمعتها في أحد البرامج التلفزيونية عن مناسبة أغنية (زهرة الروض) حيث قيل بأنها كتبت بناءاً على طلب رجل كان يعشق امرأة تدعى (زهرة) خلع عليها المؤلف لقب (زهرة الروض) بغرض التمويه حتى لا يشك أهلها و بقية الناس في الحكاية، و يفتضح أمر هذا العاشق العذري الذي لم ينسه ازدياد الوجد حرصه على سمعة تلك الزهرة التي قلَّلت منامه !

أما اليوم فـ لا رمزية و لا حياء و لا محاولات من أي نوع لادعاء العفة و لو من باب المجاملة، بل أصبحت الأغاني تزدحم بالأسماء (أسماء الرجال قبل النساء) !

صحيح أنِّي لم أسمع بهذه الأغنية قبل قراءتي لذلك المقال المعنون باسمها إلا أن شيئاً آخر بشأنها عدا رمزية الاسم قد لفت انتباهي، (شيء ما) في كلمات المقطع الذي يقول :

مرات أقول اديهو كلمة تزعلو/ حبة عذاب و كلام عتاب أنا عارفو ما بتحمَّلو/علشان أشوف خدو الحرير الدمعة جارية تبلِّلو/
لكنِّي قبال ابدا بي لحظات اقيف أتاملو !

لست أدري لماذا تأملت طويلاً في ذلك (الشروع العاطفي) اللطيف في (مكاواة) الحبيبة بكلام يبكيها و يستدر دموعها ! .
و قد أسميته بالعاطفي لأنه ليس كالشروع القانوني الذي يأتي بمعنى (الفعل) بل يأتي بمعنى (الشعور) أو الرغبة في إتيان الفعل !

إذاً فرجال ذلك الجيل لا يفرقون كثيراً بين الحبيبات و الأطفال، و هم يستمتعون بغضب الحبيبة و يرونه لطيفاً كغضبة طفلة ! .
و يبدو أن السبب في ذلك هو اقتناعهم بانعدام النديَّة الفكرية مع النساء لذا فقد كانوا أكثر تجاوزاً لأخطائهن و بالتالي أكثر حفاظاً على البيوت !

أما جيل اليوم فـ يبدو أنَّه لا يعول كثيرا على حكاية (الندية الفكرية) في العلاقات الزوجية، و مسئولية المرأة – عنده- عن أفعالها و أقوالها كاملة غير منقوصة، و هي أيضاً مرهونة بتلك المساواة التي طالما حلمت بها و سعت إليها !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الرأى العام - 2007

Wednesday 21 November 2007

نحن لسنا الأفضل

في إحدى مقالاته القديمة الجديدة يخبرنا أستاذنا (أنيس منصور) كيف أنَّ بعضهم قد قال يوماً مخاطباً (العقَّاد) في معرض حديثه عن أحد أساتذة الفلسفة : (إن هذا الرجل قد عاش في فرنسا عشر سنوات لذا فهو يفهم العقليَّة و الفلسفة الفرنسية أكثر من غيره )، فـ وَضَعَ (العقاد) يده على (جزمته) قائلاً : (لو صحَّ أن إنساناً يفهم الفرنسيين لأنَّه عاشرهم لصحَّ أن جزمتي هذه تفهم في الفلسفة و الأدب بحكم معاشرتها إياي أكثر من أي أستاذ في الجامعة) !

و بصرف النظر عن سماجة التشبيه إلا أن (العقاد) معه حق، فهو يعترض بطريقته الخاصة على بعض المفاهيم الجاهزة المتأصلة في عقول بعض الناس رغم افتقارها إلى المنطق و رغم تكذيب الواقع لها .

و الحقيقة أن الكثير من المُسلَّمات التي تملأ عقول (ناسنا) و يغلقون عليها بالضبَّة و المفتاح و يستحضرونها في كل مناسبة دونما تفكير في حقيقتها تدخل في قبيل اعتراض (العقاد) آنف الذكر، و من تلك المسلَّمات (أنَّنا الأفضل دوماً و الغير أقل درجة )، و هذا ما يردده الذين يتحدثون عن أفضلية المناهج الدراسية السودانية على غيرها من مناهج الدول العربية الأخرى .

هذه القناعة ترتبت عليها مأساة (خصم النِّسب) المستمرة التي جعلت من ذهاب الأبناء إلى الجامعات مشكلة تقض مضجع المغتربين على الرغم من كونها قائمة على (وهم) لا أكثر !

فـ لا نحن الأفضل و لا هم يحزنون، و العرب الذين نغترب في بلادهم ليسوا كما نظن، و مناهجهم الدراسية قوية و دسمة، و هي قد قطعت شوطا مقدرا في الوصول إلى معايير المنهج الدراسي المثالي، بينما لا نريد نحن المتقهقرون أن نفيق من هذا الوهم .

عندما كنتُ أدرس القانون في جامعة الخرطوم لاحظتُ مع كثيرين بخيبة أمل كيف أن مواضيع مطلوبات الجامعة كاللغة العربية و الإنجليزية و التربية الإسلامية مكررة و مضجرة بالنسبة للقادمين من بلاد المناهج التي يفترض بأنها أقل (نمواً) !

فـ من علم العروض الذي تبحَّرنا فيه بتوسع في الصف الثاني الثانوي إلى تفاصيل في قواعد اللغة الانجليزية مكررة عندنا جديدة على غيرنا . و من المعلومات الدينية التي تعتبر مبادئ لا أكثر مقارنة بما نعرفه في التجويد و الفقه و الحديث و التفسير إلى أمثلة كثيرة مشابهة يذكرها زملاؤنا في الكليات العملية عن الرياضيات و الأحياء و الهندسة .. إلخ ..

الطريف هو أننا أيضاً قد صدقنا تلك الأكذوبة التي كان يرددها الزملاء من (ناس) الشهادة السودانية في وقته، و أصبحنا نتعامل على أساسها .

و من المواقف الطريفة التي ترتَّبت على مثل هذه القناعات و كان زملاؤنا في كلية القانون ينسِبُونها إلى أحد الأساتذة و الذي اشتهر بين الطلبة بردوده اللاذعة : أنَّ مجموعة من (البرالمة) من حمَلَة الشهادات العربيَّة قد ذهبوا إليه يطلبون تفعيل خيار الإجابة باللغة العربية في امتحان إحدى المواد التي كانت تُدرَّس باللغة الانجليزية، و عندما أخبرهم بأنه لن يتم استثناؤهم من بقية زملاءهم انبرى أحدهم قائلاً فيما معناه بأن زملاءهم (ناس) الشهادة السودانية (ذاتهم) يطالبون بتفعيل هذا الخيار . فقال الأستاذ : (خلاص جيبوا لي زول من ناس الشهادة السودانية يقول لي الكلام دا) .

و عندما أتوا بـ (الزول) الذي كان يعاملهم بـ (فوقية أكاديميَّة) على أساس الأكذوبة إياها سأله الدكتور: (إنتَ جبت كم في الانجليزي في امتحان الشهادة السودانية ) ؟! . فذكر ذلك (الزول) درجة هزيلة تقف على أعتاب النجاح بصعوبة و هي إلى السقوط أقرب، عندها التفت الأستاذ إلى ذلك الطالب الذي تعهَّد بإحضار من يثبت صحة زعمه قائلاً في صرامة :

- يا أخي أنا قلت ليك جيب لي زول !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق- الرأى العام - 2007

Wednesday 14 November 2007

الهويَّة التلفزيونيَّة

يقول بعض علماء اللغة المختصين بتعريب المصطلحات بأن كلمة (رائي) والتي هي الترجمة العربية الفصيحة لكلمة(television) غير موفقة لأنها تترجم فقط كلمة (vision) أي أنها تترجم جزءاً من المصطلح، بينما من الأفضل إكساب الكلمة نفسها وزناً من أوزان العربية، فالأصح أن نقول (تلفاز)

و يقولون أيضاً بأن كلمة (تلفزيون) مقحمة على اللغة و هي صيغة لم تسمع بها العرب قديماً أو حديثاً . كل هذا جميل، لكنِّي لا زلتُ أفضِّل استخدام كلمة (تلفزيون) في حديثي بعد أن (قَشَرت) - لك عزيزي القارئ - بالمعلومة أعلاه !

و عليه فقد كانت تغطية (التلفزيونات) المحليَّة لأحداث (حرب الخليج الأولى) من المنعطفات الثقافية الفارقة في حياتي لأنها جعلتني أرى - رأي العين - خطورة دور الإعلام المرئي كأداة حشد و تعبئة جماهيرية باهرة النتائج .

وجودي في منطقة الخليج العربي إبان اندلاع الحرب جعلني أتشبع بالنسخة السعودية للتغطية الإعلامية لـ (الغزو العراقي للكويت و تداعياته)، ثم ذهبت مع أسرتي لقضاء أجازتنا في السودان فتشبعتُ ثانيةً بالنسخة السودانية للتغطية الإعلامية لـ (الاحتلال الأمريكي للكويت و السعودية) !

كان هذا عندما كانت للقنوات المحليَّة (شنَّة و رنَّة) و قبل أن
تتسلَّم القنوات الفضائية مقاليد السلطة الإعلاميَّة في تشكيل الوعي السياسي للمُشاهد، ثم تهيمن بدلال على أولوياته في خيارات (الريموت كنترول) .

إنما ظل التلفزيون المحلِّي يلعب دوره بذات القدر من الخطورة في مضمار آخر هو تقديم صورة لهويَّة البلد التي يحمل شعارها .

و إذا كانت الهويَّة التلفزيوينة للبلد تعني تقديم بانوراما اجتماعية لشعبها فهذا الأمر يعني أن يعكس التلفزيون السوداني خصوصية و ثراء الجغرافيا الثقافية و العرقية عندنا، من (الهدندوة) و الـ (بني عامر) و (الحلنقة) و (الرشايدة) و (الشكرية) و (البطاحين) و (الفونج) و (العنج) و (الفلاتة) و (الدينكا) و (النوير) و (الشلك) و (الزاندي) و (الحمر) و (الزغاوة) و (القرعان) و (الفور) و الـ (بني هلبة) و (التعايشة) .. إلخ ..
هذا بالإضافة إلى قبائل الشمال و الوسط التي كان التلفزيون السوداني و لا يزال يمثِّلها خير تمثيل !

فـ لا يكفي أن تعكس بعض القنوات السودانية الخاصة جانباً هزيلاً من هذا كل هذا التنوع الثري، و لا يكفي أن يظهر كل هذا في لمحات باهتة ُمقحمة في صور درامية شحيحة . كما أنه لا يكفي أن يكون هذا التنوع في نوعية البرامج وحدها بل يجب ان يشمل المذيعين أيضاً .. نعَم المذيعون !

ما الذي يجعل القائمين على أمر قناة بعراقة الـ بي . بي . سي يصرون على وجود الملامح الشرق آسيوية و العربية و العرب أفريقية و الهندية و الأوربية بين وجوه مذيعيها سوى ضرورة تقديم صورة تعكس التنوع العرقي و الثقافي و الاجتماعي في بريطانيا ؟ .

أتساءل ببراءة : لماذا كل هذا التشبث المُزري بالهوية العربية في التمثيل الإعلامي المرئي لهذا البلد المسمى السودان على الرغم من تفرُّده الثقافي و خصوصيته التراثية ؟! .

و هل يُقدِّم تلفزيون السودان (بانوراما) صادقة لتنوع جذور و ثقافات و تراث هذا البلد ؟ أعتقد بأننا يجب أن نحسم أمر هويتَّنا السياسية قبل أن نطالب بتصحيح هويتنا التلفزيونية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرأى العام - هناك فرق -2007

Thursday 1 November 2007

لعنة محليَّــة


رحلة الطبيب السوداني (النَّمَطي) تبدأ غالباً منذ الصِّغر و بتشجيع من أفراد المجتمع المحيط و أولهم أسرته، فما أن تبدو على الطفل إمارات الذكاء حتى يسارع بعض المتحمسين إلى التنبؤ بأنه سيصبح في المستقبل (دكتور كبير) !

و ما أن يُلقي أي ضيف يعبر (صالون) بيتهم يوماً بذلك السؤال التقليدي عما يود أن يكونه الطفل الذي يتنطط حوله في المستقبل
حتى تخرج الإجابة النموذجيَّة (الجاهزة) من بين الأسنان اللَّبنية نصف المهشمة :

- دكتور !

بعدها يختار طفل الأمس الذي أصبح مراهق اليوم كلية الطب فيهرع أفراد عائلته إلى مناداته بـ ( يا دكتور) و يطلبون منه بفرح طفولي أن (يقيس ليهم الضغط) و هو لا يزال (برلوم مفعوص) .. ثم تمضي السنوات و يتخرج (البرلوم) فيفرحون فرحاً عظيماً مبالغاً فيه !

طائعاً أو مرغماً يقوم ذلك الطبيب اليافع بتخزين ذلك التهليل و (التكبير) في خلايا مخه الرمادية و يجد نفسه يقوم باستحضاره دونما وعي منه و هو يسير مزهوا بمعطفه الأبيض !

و بعد أن ينهي رحلة التخصُّص قد يقضي سنوات طويلة من حياته في الخارج ( أوربا .. أمريكا .. إلخ ..) قبل أن يعود ليجلس على ذلك الكرسي الأنيق في إحدى العيادات ذات التذاكر الفادحة الثمن !

هنا .. و هنا فقط .. تظهر الحقيقة الموجعة التي تقول بأن (الكثير) من هؤلاء الأطباء الذين يمشون على (الصراط المستقيم) أينما كانوا في الخارج ما أن تطأ أقدامهم أرض (الوطن) حتى يطوحون بالدقة و النظام و التمسك الصارم بالواجبات و بحقوق المريض القانونية و الأخلاقية إلى أقرب (سَهَلَة) ثم يتحولون بقدرة قادر إلى أشخاص عشوائيين حد الاستهتار بأجساد البشر التي كرمها الله !

و بينما يدلل الكثير من هؤلاء الأطباء الكبار مرضاهم في الخارج و يراعون بدقة متناهية أبسط حقوقهم خوفاً من المساءلة الأخلاقية و قوانين المسئولية التقصيرية و قضايا التعويضات ينقسم المرضى المحليون بحسب رؤية بعض هؤلاء الأطباء فيما يختص بكيفية (المعاملة) في غرف الكشف إلى ثلاث فئات ..

- مرضى جهلة و أميون و (ناس الله) و هؤلاء لا يستحقون عناء الشرح و الإيضاح لانعدام النديَّة الفكرية و الاجتماعية !

- أنصاف المتعلمين الذين يكثرون من الاستماع إلى برامج الراديو ويستخدمون كلمات على غرار (أفتكر) و (في الحقيقة) و هؤلاء يجب قمعهم بتوجيه الكلام بـ صيغة الأمر و المقاطعة الصارمة لشكواهم المطولة و الردود (المسيخة) على تساؤلاتهم المملة !

- المتعلمين (جامعي فما فوق) و هؤلاء - بدورهم - ينقسمون إلى (أ) و (ب)

- (أ) و هم فئة المرضى من أصحاب المهن و التخصصات الأخرى (عدا مهنة الطب) و هؤلاء يتظارفون كثيراً و (يرفعون الكلفة لشعورهم بالنديَّة الأكاديمية و الفكرية و يستخدمون كلمات بالإنجليزية على غرار (بيشنت) و (أنتي بايوتيك) و (أنتي هيستامين) و (أنتي أسيد) و هؤلاء يجب إيقاف تبسطهم و انشراحهم بالنظرات الباردة و الجمل الحاسمة القاطعة و ذلك حتى لا تسول لهم أنفسهم السؤال عن أمر آخر غير (روشتة) الدواء !

- (ب) و هم فئة زملاء المهنة و هؤلاء يجب التعامل معهم بقدر معقول من (الود المتعالي) و هو مزيج من الترحيب و (الأنفة) المهنية التي تلعب نفس الدور الذي يمكن أن تؤديه جملة ( إنت هنا "بيشنت" زيك زي غيرك) !

و هكذا .. تستمر معاناة المواطن بكل فئاته : المطحون و المجروش و الموازي و الأفضل حالاً مع صلَف و استهتار وعشوائية كثير من الدكاترة الكبار الذين (لا) تصيبهم لعنة العشوائية (إلا) داخل الحدود الإقليمية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007

مشوار الصواب


دوماً أقول عن حياة الساسة الحقيقيين - و (حقيقيُّون) هنا تعني الساسة المحترفون و ليس الهواة ! - بأنها رحلة الأقنعة القابلة للتبدُّل بسرعة الضوء، و بأنها أيضاً مشوار (الصَّواب) الدائم الذي لا مجال فيه للتَظارُف المُطلق في مواقف التَبَسُّم المدروس, و لا سبيل معه إلى الارتجال في مواضع التفْنيد .

و قد انتهت في الأسبوع الماضي إحدى قصص مشاوير الصواب الدائم تلك بانتهاء علاقة زوجية نصفها الخشن سياسي مثير للجدل هو رئيس جمهورية فرنسا (نيكولا ساركوزي) و نصفها الناعم سيدة فرنسا الأولى . و كم أراح إعلان خبر الطلاق الذي أتى بعد خمسة أشهر من وصول (ساركوزي) إلى الرئاسة ملايين الأعناق التي ظلت مشرئبةً نحو نوافذ و أبواب قصر (الاليزيه) المواربة على خلافات قديمة متجددة تأجل البت فيها لحين انتهاء (موال) الانتخابات .

بإعلان هذا الخبر تأكدت صحة الكثير من الشائعات التي ظلت تتردد طويلاً بسبب غياب (سيسيليا) عن الكثير من الأحداث الهامة في حياة زوجها السياسية برغم حرصهما معاً على المضي قُدماً في مشوار الصواب الدائم إياه و الذي هو قدر البائسين الذي يختارون طريق السياسة بكل (نتوءاته) و انبعاجاته القاسية .

على كل حال لا ينبغي أن نعول كثيراً على تلك اللوحات الاجتماعية لمشاهير السياسة و الفن و المرسومة بدقة الحسابات الفيثاغورسية، أو على تلك المواقف العلنية المُشذَّبة بعناية و التي تثير الغيظ أكثر من كونها تبعث على الإعجاب، بل يجب أن نولي ثقتنا أكثر إلى الصور الاجتماعية التي تبدو أقل اكتمالاً و أكثر واقعية .

لماذا ؟! .. لأنه لا بدَّ من بعض (الشتارة) أحيانا لتبدو المواقف واقعية ! . لا بد من بعض النقص و الارتباك لتكون الصورة إنسانية و ليس سينمائية . لذا أعتقد بأن زوجة (أوباما) مرشح الرئاسة الأمريكي الإفريقي الأصل و التي انتقد الجميع صراحتها في الحديث بشأن انصراف زوجها عن الحياة الأسرية إلى حياة السياسة أعتقد بأنها لم تخطئ و بأن تلك (الشتارة) من جانبها قد أعطت بعداً واقعياً لشخصية المرشح الذي ينتظر الكثيرون أن يحقق الفوز .

لكن هذا لا يعني وجوب افتراض علاقة عكسية بين المثالية أو الطموح إلى الكمال و الواقعية بقدر ما يعني أن الواقعية هي أن تكون حقيقياً على طبيعتك، و معنى أن تكون على طبيعتك أن تكون بشراً تخطئ مرة و تصيب مرات .. لا أن تكون مصيباً على الدوام .

أذكر أن إحدى المجلات ذائعة الصيت قد نشرت قبل بضع سنوات تحقيقاً مضماره أوساط و شرائح مختلفة و متفاوتة من النساء العربيات، يمكن تلخيص نتيجته الرئيسية في الجملة الطريفة الآتية : (الزوجات الأكثر أناقة هن الأكثر تعاسة ) .. لذا يبدو أن سيدة فرنسا الأولى قد سئمت إخفاء أحزانها خلف أناقتها الفادحة ! .

و إن كانت خلافات (سيسيليا) و (ساركوزي) قد أحدثت بعض الخدوش الطفيفة في اللوحة الاجتماعية التي يفترض أن تكون مصقولة مئة في المئة و على مدار الساعة فهذا يعني - على الأقل - بأنهما لا يزالان إنسانين و بأنهما لم يتحولا بعد إلى آلتين تعملان بوقود السياسة ! .

من ينكر حقيقة أن الصورة السينمائية شيء و الصورة الواقعية شيء آخر ؟! . و أن الأولى هي ما يجب أن نكون عليه بينما الثانية هي ما نحن عليه فعلاً ! .
حتى أطباء الأسنان يُصنِّفون عمليات تبييضها في عياداتهم إلى درجات أقصاها درجة (الابتسامة التلفزيونية ) أو البياض الناصع شديد اللمعان بينما درجة البياض الطبيعية لأسنان الإنسان هي اللون (البيج) و ليس الأبيض الناصع .

إذا سلَّمنا بأننا بشر خطاءون .. فأين المشكلة في أن يختار الناس مرشحاً رئاسياً بحسب (ما هو عليه) لا بحسب (ما ينبغي) أن يكون عليه ؟! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك رفق - الرأى العام - 2007

المتهمة البريئة


من المشاهد المطرزة في قماش ذاكرتي حتى الآن و التي لا زلت أبتسم كلما ذكرتها منظر جارتنا و هي تلتهم الطعام في المطبخ و في نهار رمضان المبصر ! .
كانت جارتنا تلك تلتهم الطعام بسرعة و هي تتلفت يمنة و يسرة كاللصوص بينما وقفتُ أرقبها بدهشة كبيرة لبعض الوقت قبل أن أخاطبها قائلةً باحتقار طفولي و يداي ممدودتان بصينية الكنافة :

- ماما رسلت ليكم الأكلة دي ! ..
- يا سلاااام شكرا ليك يا منوية ..

و بينما كنت أنظر بفضول إلى الفتات المُتبقِّي في صحن طعامها المخبأ خلف قدور الطعام قدَّمتْ إلىّ لوحاً من (الشوكولاتة) قاومتُ إغراءه بصعوبة قبل أن أرفضه بأدب قائلةً بلهجة طفولية ذات مغزى :

- شكراً يا خالتو أنا صايمة ! ..

لا زلت أذكر كيف قطعتُ المسافة التي تفصل بين مطبخ بيتهم و مطبخ بيتنا - حيث كانت أمي منهمكة في إعداد الإفطار - ركضاً، و كيف وصلت لاهثةً مبهورة الأنفاس و أنا أفكر بحزن .
يا للهول جارتنا (الحيطة بالحيطة) و أم صديقتي الأثيرة و شريكتي الدائمة في اللعب تأكل في نهار رمضان ؟! . و عندما سألتني أمي عن نتيجة المهمة التي أرسلتني لإنجازها أخبرتها باقتضاب عن فراغي منها، و لم أخبرها بما رأيت .

كنت منهكة من الجوع و العطش فجلست أتفرج على أفلام الكرتون و شيئان لا يفارقان ذاكرتي منظر جارتنا تلك و هي تلتهم الطعام في الخفاء و لوح الشوكولاتة اللذيذ إلى اضطررت إلى الاعتذار عن قبوله لأجل الصوم ! .

- الصوم .. الصوم .. الصوم الذي يقطعه الكبار بالتهام الطعام سرا ! ... هكذا كنت أفكر .. و لست أدري لماذا اخترت السكوت لحظتها و لم أخبر أمي بما رأيت من جارتنا تلك في حينه .

على مائدة الإفطار كانت أمي تثني على صبرنا أخي و أنا على الصوم رغم حرارة الجو، شعرت بالزهو و الفخر الشديد و كدت أن أفشي سر جارتنا ربما لأثبت أننا أفضل من بعض الكبار طلباً لمزيد من الثناء لكن شيئاً ما جعلني أختار الصمت مرة أخرى .

في المساء و قبل أن أذهب إلى النوم أذعت سري الصغير على مسامع أمي، و فوجئت بها تبتسم و هي تخبرني بأن جارتنا تلك مريضة و قد أمرها الطبيب بعدم الصوم لعدة أيام حتى تتمكن من تناول بعض العلاج، و بأنِّه ليس من التهذيب أن يتهم الصغار الناس بارتكاب أفعال خاطئة قبل أن يستمعوا إلى تفسير الكبار .
سألتها بإلحاح : كيف تكون مريضة و لا يبدو عليها التعب ؟! .. ثم كيف تكون مريضة و لا تعرف ابنتها التي تلعب معي طوال الوقت بأن أمها مريضة ؟! ..
فقالت أمي بأنها لا تريد أن تخبرهم بمرضها حتى لا تثير قلقهم ! .

بعد حديث أمي عادت جارتنا تلك إلى مكانها الأثير في نفسي بعد أن كادت أن تغادره إلى مكان آخر لا وجود فيه للكبار المحترمين و الأعزاء ! .

لو قالت أمي يومها بأن للنساء أياماً في شهر رمضان يفطرن فيها بأمر الله لوفرت على كثير من السنوات قضيتها قبل أن أعرف نوع المرض الذي أصاب جارتنا ! .
أعتقد بأن الأمهات مدينات لأطفالهن بتهيئة نفسية مناسبة لمثل هذه المواقف المُربكة فقد يرى أحد الأطفال أمه في موقف مشابه ثم لا يجد من يفسر له ذلك !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


مناخ المنطقة الوسطى

إذا رأيتم رجلاً يعامل امرأة بفتور أو عدائية بعد أن كان يهش و يبش في وجهها فتأكدوا من أنها قد "ضربته على أم رأسه" باتخاذها موقفاً احتجاجياً من تجاوزه للمسموح و محاولته اختراق حاجز الرصانة و الاحترام الذي لا بد أن يظل قائماً بين أي رجل و أية امرأة لا تربطهما صلة قربى أو زواج

و ما بين رصانة العلاقة الرسمية و ابتذال التجاوزات الخارجة توجد منطقة وسطى "مهمشة" و غير "مأهولة" بالكثيرين على الرغم من غناها بالموارد الطبيعية هي منطقة الصداقة "النظيفة" بين الجنسين .

هذه الصداقات تعوِّل في نهوضها على النِّدية الفكرية أو الأكاديمية لذا فهي غالباً ما تنشأ بين المثقفين و المثقفات، و نجاحها يكون مرهوناً بثبات الظروف المناخية التي تصاحب نشوءها و تساعد في نموها

في الغالب تصل المرأة المثقفة الواعية إلى هذه المنطقة الوسطى بسهولة و يسر و ثقة كبيرة بالذات و بالصديق بينما يتعثَّر الرجل و يتباطأ قبل أن يتمكن من الوصول إليها سالماً و بعد قدر وافر من المماحكة و التلكؤ

الرجل المثقف الذي يزعم أنه يجيد التفريق بين "النساء" و "الحريم" لا يرضى بأن يكون أقل من فارس الأحلام في حياة الأنثى التي يراها متميزة و جديرة باحترامه و مودته، و قد لا تسعفه كل الكتب و النظريات و النصوص المتحررة التي شرب مضامينها و اقتبس من نورها إذا كان هذا النِّد الفكري أو الثقافي أو الأكاديمي امرأة بها مسحة من جمال

فما أن يلحظ بعض هؤلاء مسحة الجمال تلك حتى يطوحون بالموضوعية و التجرد إلى أقرب نهر ثم ينتقلون بآلة الزمن إلى العصر الحجري أو إلى الطور الأول في نظرية داروين - لست أدري بالضبط - كل ما أدريه أنهم يتقهقرون على نحو مؤسف، فتعاني "بت الناس" المثقفة من الخجل و الإحباط و الحزن جراء نوبات التبسم الهستيري و التصريحات الشخصية و الإيحاءات غير

بينما يعيش البعض الذي يُغلِّب بصعوبة بالغة النزاهة و الموضوعية على ذلك الإغراء - المتمثل في ركوب آلة الزمن إلى العصر الحجري - في مكابدة حقيقية من تغيُّرات الجو بعد انتقالهم إلى مناخ مغاير لما اعتادوا و نشئوا عليه من موروثات تبرز على السطح عند أول اختبار حقيقي لأبجدياتهم و مسلماتهم في التعامل مع المرأة

فيشكون انخفاض درجة الحرارة في تلك المنطقة، و يصابون بالرشح و الزكام و الحمى ثم يواصلون التذمر و التأفف سراً دون أن يجرؤ أحدهم على البوح بذلك حتى لا يعلن رسوبه في اختبار الصداقة، ذلك الرسوب الذي قد ينفي ذيوعه الكثير من الادعاءات التي يرددونها طوال الوقت

قد يعتاد هذا البعض على تلك الأجواء بعد أن يدب اليأس في قلبه من احتمال أن يكون هو "شهريار" تلك "الشهرزاد" الذكية و من ثبات تلك الأجواء المعتدلة التي لا تعتريها غيوم أو عواصف من أي نوع

قلة قليلة جداً من بين كل هؤلاء و أولئك هم الذين يعرفون ماذا يريدون بالضبط من أنفسهم و من غيرهم، هؤلاء ينتقلون بمحض إرادتهم و بمنتهى اليسر إلى تلك "المنطقة الوسطى" و ينعمون بهوائها العليل النظيف


بينما يعيش المثقفون الأدعياء مع ازدواجية المعايير و لسان حالهم يردد ما كان يقوله أحد المدرسين من زملاء والدي – حاج أبو زيد - عن زميلاته قبل ثلاثة عقود من الزمان، فقد كان ذلك (الزميل) يقول عندما يقابل بعض المدرسات في أماكن أخرى غير المدرسة ثم يجد صعوبة في التعرف عليهن

يا أخواننا ديل حريم و لا مُدرِّسات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007م

Sunday 2 September 2007

ورطة الكاتب بين (بناء) النص و (زراعة) المقال

في مقاله العميق : (كيف تُكتب الرواية) يقول الأديب الكولومبي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز : " ... إن تمزيق القصص القصيرة أمر لا مناص منه لأن كتابتها أشبه بصب الأسمنت المسلح أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر، و هذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها، بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك إذ يمكن العودة للبدء فيها من جديد ... " ! . لقد حدثنا ماركيز عن طقوس كتابة القصة و الرواية في مقال أنيق .

لكن .. ماذا عن طقوس كتابة مثل ذلك المقال ؟! .

وددت لو كتب لنا شيئاً عن تجارب الأدباء - الذين يرسمون نصوصهم الأدبية وفقاً لطقوس تأخذ خصوصيتها من طبيعة هذا النوع من الخلق - مع كتابة المقال التي قد تفرض عليهم طقوساً من نوع آخر .

ربما لأن الشائع هو تحول الأدباء إلى كتابة المقالات الدورية في الصحف و المجلات و نجاحهم الكبير في هذا، بينما من النادر أن يتحول كاتب المقال إلى كتابة النصوص الأدبية ثم تكون النتيجة أن يوازي إنجازه في هذا الصدد نجاحه في كتابة المقال ! .

لا شك أن الفرق بين كتابة النص الأدبي و صناعة المقال يكمن في بعض التفاصيل الطريفة و العميقة في آنٍ معاً ! .
فـ كتابة المقال حالة ذهنية أو عمل يومي من المُعاش، بمعنى أن الكاتب لا ينفصل عن الواقع بل يظل يشرح و يفنِّد إشكاليات هذا الواقع، ثم يقترح لها الحلول .

أي أن تأثر الكاتب بواقعه و تأثيره في مجرياته هو أمر مرهون بالمعاصرة في مثل هذا النوع من الخلق . بينما يمكننا القول بأن النص الأدبي هو نوع من أنواع الخلق المفتوح أو المُشرع على عالم الخيال، فالكاتب قد يلوِّن الواقع و قد يتفنن في تجريده و قد يقوم بطرحه كما هو . ثم أنه قد يستعيض عن كل هذا باقتراحه لعوالم أخرى جديدة .

فالخيال هو طفل النص الأدبي المدلل بينما هو عدو المقال اللدود ! . و الموضوعية التي تكون شرطاً في تقبل القارئ لفكرة المقال، قد تجنح بقارئ النص الأدبي إلى الملل ! .

إن الكتابة النخبوية أو المعقدة قد ترفع في كثير من الأحيان من شأن كاتب النص الأدبي و قد تضمن له العظمة و الخلود مثلما فعلت رواية (الصخب و العنف) فقد اعتبرها النقاد معجزة حققها خيال الروائي العظيم (وليم فولكنر) الذي اضطر إلى كتابة ملحق في طبعتها الجديدة يشرح فيه بعض غموضها للقراء ! .

هنا رفع الغموض من شأن (فولكنر) ، في الوقت الذي رفعت فيه البساطة من شأن الكاتب الكبير (توفيق الحكيم) الذي حقق الخلود أيضاً لا بغموض أسلوبه بل بلغته البسيطة في كتابة المقال !.

إذاً الغموض في كتابة المقال يكون بمثابة جدار يفصل بين كاتبه و قارئه ، بينما هو في النص الأدبي غلالة رقيقة منسدلة على جسد النص، و هي لا تفسد رؤية القارئ لما خلفها بل تضفي عليه المزيد من السحر ! .

و في كتابة النص الأدبي يجتهد الكاتب في ضمان الخلود لنصه الذي يتغذى من وجوده فيتخلَّق باعتباره كياناً مستقلاً منفصلاً عن كاتبه، لدرجة أن القارئ قد يُخلِّد شخصية ابتدعها خيال كاتب في الوقت الذي لا قد يحتفي به على النحو الذي يستحق، كما حدث مع شخصية (شيرلوك هولمز) التي خلقها خيال (السير آرثر كونان دويل) تلك الشخصية التي طغت شهرتها على شهرته .
و قد يكون (دويل) أول كاتب في التاريخ تنهشه الغيرة من شخصية صنعها خياله و قد اتخذ قراراً بموتها لهذا السبب، عندها جاءته آلاف الرسائل - من القراء الغاضبين الساخطين على فعلته - مطالبة إياه بأن يبعث (شيرلوك هولمز) إلى الحياة، فما كان منه إلا أن فعل ! .

يحدث هذا مع النصوص الأدبية بينما تلعب المقالات دور السلالم في إيصال كاتبها إلى كرسي الخلود فلا يتذكر الناس مقالاً بعينه منفصلاً عن كاتبه بل يرددون أن هذا الكاتب يكتب أشياء عظيمة ! .

و قد يكون إجماع الناس على عظمة كاتب النص الأدبي أسهل بكثير من إجماعهم على عظمة كاتب المقال، ربما لأن المرجعيات النقدية التي يتكئ عليها القراء العاديون و النخبويون على حد سواء في تقييم النص الأدبي ثابتة و متشابهة نوعاً، بينما في كتابة المقال لا يمكن للكاتب بأية حال أن يرضي جميع الأذواق، فالذي يُرضي القارئ النخبوي قد يحصُد امتعاض القارئ البسيط، و الذي يعجب القارئ العادي قد يثير استياء القارئ المثقف و هكذا ...
و بينما تكون استمرارية الكتابة هي الضمان الأوحد لنجاح كاتب المقال قد يحقق كاتب النص الأدبي العظمة و الخلود بكتابة نص واحد ! .
فـ كاتب المقال هو بستاني يحصد من الثمر على قدر ما يبذل من جهد في الغرس و الري و التلقيح و التشذيب، و إن هو غفل عن غرسه يوماً ضاع جهده ! .

بينما كاتب النص الأدبي هو مهندس و عامل بناء في آنٍ معاً، و قد يشيد هذا المهندس العامل مبنى واحداً يكون مزاراً و ضريحاً يحكي عن عظمته إلى الأبد !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيلولة - مجلة الخرطوم الجديدة - 2007


منطلقات الصيد الجائر

هل يجب أن تظل أيادي النساء موضوعة على قلوبهن طوال الوقت خوفاً أخريات مجهولات قد يسرقن الأزواج ذات غفلة ؟! . و إن حدث هذا – لا قدر الله - هل
ستنخرب بيوتهن ؟ أم أن مساحاتها سوف تتقلص إلى النصف فقط ؟

عوضاً عن كون العيش على هذا النحو – أي مع حكاية الأيادي الموضوعة على القلوب طوال الوقت تلك - جحيما يفوق جحيم الضرة نفسه باعتبار أن القتل أهون من التلويح بوقوعه، فـ لا أظن أن التحفُّز المفرط تجاه هذه الفكرة أمام الزوج أو مع النفس قد يعتبر خيارا سديدا !

و قبل أن تمتعض مني بعض النساء أو (يتكيَّف مني) بعض الرجال أقول بمنتهى الموضوعية و الحيادية و بما قد أستطيعه من تجرُّد بأننا حينما نطرح مسألة التعدد أي زواج الرجل المتزوج من أخرى للنقاش فإننا لا ينبغي أن نفعل ذلك مدججين بتلك الأفكار العدائية المتوفرة لدى معظم النساء فنركز على شجب الأمر على إطلاقه . إنما الذي ينبغي أن يعنينا في المقام الأول هو ظروف كل حالة على حدة و منطلقات كل من الطرفين في ذلك القرار و حجم الأضرار التي قد تعود على الأسرة و الأطراف الثلاثة من هذا الزواج ! .

لقد ظلت الأسباب المعلنة للتعدد، و التي ترتدي عباءة الأعذار لدى بعض الرجال حتى وقت ليس ببعيد منحصرةً في عدم الإنجاب أو تقدم السن بشريكة الحياة و انشغالها بالأبناء و الأحفاد، أو غير ذلك (مما يشبه ذلك) ! و قد كان معظم المحيطين بالزوج أو المتهم يثورون ضد الفكرة أياً كانت الأعذار، أما اليوم فتلك الأسباب قد تبدو مهضومة و بمنتهى اليسر مقارنة بالأسباب الجديدة التي يصعب على (الواحد) ازدرادها ناهيك عن هضمها !
فاليوم يتزوج الكهول الأغنياء الشابات الجميلات على زوجاتهم اللاتي قد يكن بدورهن شابات جميلات و تتزوج العوانس الثريات الشباب اليافعين الوسيمين مرَّة و اثنتين و ثلاث، بينما قد تلهث الشابة الجميلة المتعلمة وراء فكرة الزوج المناسب الذي يستر حالها و ينقذها من شبح العنوسة و كفى، بل و بأكبر قدر ممكن من التنازلات الإيجابية
و أرجو أن لا يفهم هذا الحديث على أنه تنديد بالزيجات المبنية على فوارق عمرية أو فجوات جيلية لأن الكثير من هذه الزيجات قد أثبت نجاحاً حقيقياً، إنما القصد هو أن الطمع أو الإغراء المادي قد بات هو المنطلق الوحيد لكثير من الزيجات اليوم .
فالطرف الذي يتلبس معطف الصياد يلوِّح بماله بمنتهى الثقة، و الآخر الذي يتسربل بثوب الفريسة يلتقط الطعم بسعادة و اقتناع، و لا يهم إن كان هذا يدخل في قبيل الصيد الجائر الذي يحدث خللاً في التوازن الطبيعي للعلاقات الاجتماعية فبينما يفرط العزَّال في لقط النخب الأولى و المتميزة على نحو قد يفيض عن حاجته ينتظر المحرومون تحت أشجار الظن و الترقب لحين حلول النصيب !
إذاً المشكلة لم تعد في التعدد الذي يتكئ على مبررات مقنعة نوعاً، بل في دناءة بعض النفوس التي تأبى الرضا بما لديها و تطمع دوماً في الجديد من جهة ، و في الرضوخ لإغراءات المال من جهة أخرى، الأمر الذي لم يعد طبعاً مستهجنا بل شطارة أناس أمنوا مستقبلهم مع الأزواج الأغنياء فأمنوا بذلك شر الفقر ! .
كيف نُشخِّص هذا الخلل المجتمعي يا ترى ؟! و بماذا نبدأ ؟! بجشع الصياد المتمرد على فكرة التعود.. أم بتواطؤ الفريسة ؟! .. أم نبدأ بتصفيق المجتمع الذي يشجع اللعبة الحلوة ؟! .. لا أدري ! كل ما أدريه أن الزواج في السودان لم يعد قراراً مبنياً على قناعات صحية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - جريدة الرأى العام - 2007

He's Just Not That Into You !

في أمريكا حيث يبصق الناس في وجوه الساسة ثم يمشون على الأرض هوناً ، و "همبريب" الحريًَّات المبذولة – بحسب ذمة وسائل الإعلام - يلفح وجوههم الباسمة من كل الزوايا الممكنة ، لا يزال حق تقرير مصير العلاقات الخاصة في يد الرجل وحده
بينما تقبع النساء تحت أشجار الظن و الترقُّب في انتظار الخاتم "إياه" ، و هنَّ يتمرنَّ أمام المرايا على إجادة أدوارهن المنتظرة في الهتاف بـ كلمة (أقبل) رداً على طلب الزواج التقليدي الذي يأتي في الغالب بعد "سلة روح " معتبرة بفعل "مماطلة" لا بأس بها قد تمتد لسنوات طِوال من العيش تحت سقف واحد ! إنَّما الذي يعجبني في كل هذا – على الرغم من رداءة الفكرة العامة – أن هؤلاء القوم لا يمزحون البتَّـة في حكاية العرض أو القبول هذه ! " فالنطَّة " من عرض الزواج بعد تلقُّف الأنثى له جريمة يعاقب عليها القانون !. الغريب أن المرأة الأمريكية برغم تحررها لا تزال تلجأ إلى التخمين و التحليل لمعرفة نوايا رجلها فيما يختص بجدية العلاقة . فبينما ترسل "عبير" (عندنا) صديقتها "نسرين" لمحاولة اختبار جدية "زهير" بشأن العلاقة من خلال التظاهر بالفتنة - ثم قد يتظاهر هو بالوسامة ، الأمر الذي يعني الجنوح إلى الخيانة ، و قد يتمسك بالإصرار على السَّماجة ، الأمر الذي يعني الإخلاص ! – تلجأ المرأة الأمريكية إلى مستشار في شئون العلاقات يرسم لها خارطة الطريق - إن هي شاءت - في مقابل رزمة محترمة من الدولارات ! . و قد حدث أن قامت " أوبرا وينفري " باستضافة باحثيْن في برنامجها الحواري - الذي تبث قناة الـ إم . بي . سي حلقات "بايتة " منه – هذين الباحثين قاما بتأليف كتاب عن فنون التعرُّف على جديَّة الرجل في العلاقات العاطفية من عدمها . عنوان الكتاب " إنه لا يميل إليك ِ " ، و تتولى فصول الكتاب شرح فكرة العنوان من خلال وضع الافتراضات و تقديم الاستنتاجات ، فعلى سبيل المثال لا شيء يبرر عدم إجراء مكالمة هاتفية تستغرق دقائق معدودة ، الأمر الذي يعني أن تقصير الرجل في أمر المكالمات الهاتفية يُبرهن على عدم جديته في العلاقة ! . طيب ، هل تحتاج معرفة هذه الأمور التي لا يمكن أن تفوت على حدس الأنثى إلى مستشارين ؟! . و هل تحتاج المرأة إلى تصفُّح كتاب مماثل قبل أن تركُل الرجل المراوغ خارجاً و بكل سرور ؟! . ثُمَّ هل يستحق الأمر كل هذا العناء ؟! . " و الله يا هو " ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيلولة - صحيفة الرأى العام - 2007

أيها الناخب هل أنت جاهز ام مستعد ؟!


هل غادر الشعراء من متردَّمٍ في حكاية الحديث عن التحول الديمقراطي ؟!. لا أظن ذلك و الدليل أن معظم الساسة عندنا من وزراء و برلمانيين يتحدثون عن هذا التحول المرتقب و كأنه عصا موسى التي سوف تشق بحر الحقوق و الواجبات المتبادلة - بين الحكومة و (الوطن) ثُمَّ الحكومة و المواطن - إلى نصفين متعادلين متشابهين ! .

و هذه بالضبط هي المشكلة : أنه (مرتقب)، و كأنه سيهبط علينا من السماء بقرار وقوع واقعة الانتخابات، و من ثَمَّ اختيار الناس لمن سيحكمها بملء إرادتها، و كأن إرادتها تلك ستنبثق في ثوب جديد غير ثوبها البالي الذي تلبسه الآن ! .

في هذه الحالة الأجدى أن نسميه (انقلاب ديمقراطي) لأن التحول الديمقراطي الحقيقي يكون مرحلياً بقدر ما يكون مفصلياً أو جذرياً، أي أن هنالك دوماً علاقة طردية بين جذرية الأهداف و مرحلية تحققها التي تشبه واقع و ظروف المنتفعين بها و أولئك الذين يفترض أنها قد رُسمت لأجلهم .


و الحقيقة أنه لا يزال هنالك الكثير مما يجب أن يقال عن هذا، إنما من غير الذين تعودنا عليهم منذ الاستقلال و حتى هذا المنعطف . فهم قلة محددة الانتماء، محدودة العدد يمكننا أن نحصيهم بأقل من أصابع اليد الواحدة، و لا يعقل أن يكون العقم قد أصاب رحم هذه الأرض بعدما أنجبتهم ! .

إن الكيانات السياسية في كل أنحاء العالم لا تشيخ و لا تهرم لأنها تعمل على تجديد دماءها كل بضع سنوات على الأقل، بينما الحال عندنا على غير ذلك فقد ظلت الكلمة الأولى و الأخيرة حكراً على (قائل واحد) داخل أروقة أحزابنا السياسية، (قائد أوحد) لا يمكنه بأية حال أن يجاري متغيرات العصر بذات الكفاءة و الحنكة، أو فلنقل ذات المقدرة على الموازنة بين الحماس الخلاق و الموضوعية المهادنة .

هذا التأليه قد يكون مرده إلى نزوع الشخصية السودانية إلى تنزيه الكبير، لأجل ذلك يتخذ المواطن موقفا مُذعنا مع أي موقف يصدر عن قيادة الكيان السياسي الذي ينتمي إليه و إن أخطأت، بينما يتخذ موقفاً عدائياً في مواجهة المواقف التي تصدر عن الآخر و إن كان مصيباً . الأمر الذي يعني قصوراً في نضجه السياسي .
ما الذي قد يضيفه التحول الديمقراطي إلى مواطن يُقدِّم الولاء الأعمى على كل شيء - بدءاً بولائه الوطني، مروراً بحقوقه و انتهاءاً بحقوق الآخرين - إذا لم يواكب هو هذا التغيير بالنضج الديمقراطي المطلوب ؟! .

إن الإجابة على هذا السؤال هي معنى الفرق بين الولاء الوطني و الولاء السياسي، كما أن ذات الإجابة هي : فلسفة التفريق بين معنى أن يكون الناخب (جاهزاً) و معنى أن يكون (مستعداً) ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام 2007

وليمــة الورد

في الخرطوم التي يحدث فيها كل شيء، عندما كان عام 96 يودع نصفه الأول، و ذات نهارٍ محايد استأجرنا – صديقتاي و أنا – سيارة أجرة لتُقلَّنا إلى (مشتل زكي) الذي كان ينفرد بإنتاج باقات الورد الطازجة ! . وقتها لم تكن الخرطوم تعج بمحلات بيع الورد المنتشرة الآن .
كنا ذاهبين لعيادة إحدى صديقاتنا المريضات، ولأننا من الذين عاشوا و ترعرعوا خارج البلد لم تكن معرفتنا بالطرق و الشوارع كافية، الأمر الذي أثار تذمر السائق العجوز :
- إنتو ماشين ياتو (بيت) هنا بالضبط ؟!
- ما (بيت) يا (عمُّو) .. مشتل !
- عاوزين تشتروا زرع ؟!
- لأ .. عاوزين نشتري ورد .. عندنا صاحبتنا عيانة و ماشين نزورها !
- ورد شنو ؟! .. هسه كان إشتريتو ليها كيسين فاكهة ما كان أخير ليها ! .

في طريق العودة و بينما كان السائق العجوز يرمقنا بامتعاض – من خلال المرآة - كنا نحن نتأمل بابتسامات طفولية باقات الورد البديعة تلك و قطرات الماء المتناثرة عليها كحبات اللؤلؤ ! .

كانت صديقتنا تلك تقطن في الجانب الآخر من شارع المعرض الذي يمتد بين (منطقة بري) و حي (جاردن سيتي) و كأنه يُمهِّد بامتداده لذلك التطرُّف الواضح بين مظهر البيوت العادية الُمتراصَّة على مرمى حجر منه و تلك البيوت ذات الأناقة الغامضة على الجانب الآخر .
و على الرغم من قوة المودة التي كانت تربطنا بتلك الصديقة لم يكن لدينا علمٌ كافٍ بوضعها المادي، و لم يحدث أن ذهبنا لزيارتها، فقط هي التي كانت تزورنا في الداخلية التابعة لجمعية المغتربين حيث نسكن، و أذكر أنها كانت تستعير منِّي بعض الكتب ثم تعيدها بانتظام، و لا أظن أن فتاة في مثل عمرينا وقتها قد تعقِّب على كاتب أو كتاب بمثل ما كانت تقول بعد قراءتها لهمنجواي و فولكنر و تولستوي و فلوبير !.
إنما لم يحدث قط أن دعتنا لزيارتها و لم يحدث أن أبدينا رغبة بذلك .

إلى أن جاء يوم افتقدنا فيه زياراتها بعد غياب عدة أيام، سألنا عنها صديقتها التي كانت تعمل في محل اتصالات قريب فأخبرتنا بأنها مريضة، أخذنا العنوان ثم ذهبنا للاطمئنان عليها.
كان المنزل متواضعاً ينم عن فقر مدقع الأمر الذي فاجأنا كثيراً . و برعونة الذين يعيشون على هامش الواقع ذهبنا لعيادتها محملين بالورود و لم نفكر قط في احتمال حاجتها للمال، لعله صغر السن و قلة المعاصرة لأوضاع الناس في البلد، أو ربما لأنها لم تشعرنا يوماً بأنها فقيرة .
يومها تمنينا لها عاجل الشفاء ثم خرجنا مطرقين يغمرنا الخجل و باقات الورد تلك مكدسة بغباء على طاولة قريبة بجانب سريرها !.
و عندما حاولنا أن نساعدها ببعض المال نظرت تلك الصديقة بازدراء إلى المظروف الملون الذي كانت عليه صورة (دبدوب) - يطير في الهواء و هو يحمل بالوناً و يبتسم في غباء - قبل أن تعيده إلينا برفض حاسم ! . و منذ تلك اللحظة لم نعد نراها كثيراً ! .
بعد مرور سنوات قابلتها مصادفةً و افترقنا على وعد بلقاء قريب . و عندما أتت لزيارتي قادتنا (الونسة) إلى ذلك اليوم فحدثتها عن امتعاض سائق التاكسي من باقات الورد و اقتراحه الفاكهة كهدية أكثر واقعية و عملية . عندها فوجئت بها تخبرني كيف أنهم في ذلك اليوم لم يكونوا يملكون قوت يومهم بالمعنى الحرفي للجملة ! . ثم كيف منعها التعفف من قبول ذلك المال الذي جمعناه لأجلها . كانت تقول ذلك و هي تضحك بقناعة آلمتني .

ما أدرانا وقتها بأن العالم أكثر تعقيداً و قبحاً مما كنا نظن ؟! ॥اليوم و بعد أن انتقلنا من تدليل الآباء غير المشروط إلى مشاركة الأزواج التزامات الحياة أدركنا كم كانت باقات الورد تلك خياراً ساذجاً !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - صحيفة الرأى العام - 2007



شيء من الخوف

المبادرة بالاعتراف بعدد سنوات العمر في عرف معظم النساء خطأ فادح يدخل في قبيل الأفعال المتهورة التي لا سبيل إلى تصحيح عواقبها . و الرجل الذي يسأل المرأة عن عدد سنوات عمرها عن تقصُّد منه رغبةً في إزعاجها، أو عن جهل منه بقواعد اللَّياقة هو شخص مغضوب عليه في كلا الحالتين و يستحق أن تكذب هي عليه بكل سرور و دون أن تشعر بالذنب أو يطرف لها جفن ! .

لأجل ذلك ربما كان في حديثي اليوم عن هذا السر اللَّطيف الذي لا يعرفه كثير من الرجال بعض المجازفة فهم لا يعلمون بأن رحلة النساء مع الخوف من كبر السن تبدأ عند اقترابهن من سن الثلاثين ؟! .

و لأن الأمر مرهون بطبيعة المجتمعات فلا أستطيع الجزم بشأن كل نساء العالم إنما قد أزعم بكثير من الاطمئنان بأن هذه هي الحال عندنا . و هذا النوع من الخوف ليس وقفاً على غير المتزوجات بل يشمل جميع النساء لأن مصدره ليس القلق من عدم الزواج بل الفزع من القادم المجهول .

قبل نحو عامين عندما كانت تفصلني عن بلوغ الثلاثين بضعة أشهر داهمتني أحاسيس غريبة و مزعجة كانت جديدة عليَّ .. بعض الحسرة و شيء من الفتور أو (شيل الهم) عند التفكير بعيد مولدي، و الكثير .. الكثير من الخوف ! .

و عندما أعود إلى أوراقي لقراءة ما كتبته في ذلك اليوم الذي ودَّعتُ فيه جملة ( أنا عمري كذا و عشرين سنة ) إلى الأبد أجد عبارات يختلط فيها الخوف ببعض الحزن .

و أذكر كم أصبحت بعدها أميل إلى الرصانة و كيف أقلعت دونما وعي منِّي عن الكثير من العادات التي أصبحت أراها صبيانية، و كيف بت أشعر ببعض الخجل من قراءة الألغاز و روايات الجيب علناً أمام الناس و كأنني أخشى أن يضحك الناس علي أو أن يتهمني البعض بمحاولة الظهور في عمر أصغر .

وقد علمتُ فيما بعد من نساء كثيرات بأن ذلك الخوف الغامض هو رسوم الدخول إلى عالم الثلاثين تدفعها جميعهن في صمت لأن العادة قد جرت على أن تبتلع النساء مثل هذا الإحساس و أن يحرصن كل الحرص على أن لا يشعر به الآخرون من حولهن، و على رأس أولئك الآخرين الجانب الخشن ! .
لذلك تعيش كل واحدة منَّا هذا الخوف في حينه دون أن تبادر إلى البوح به ربما خشية أن يعمل الآخرون على تأكيده .

إحدى صديقاتي تقول دوماً بأن المرأة تبدأ في القلق عند بلوغها نهاية العشرين ثم يتطور الأمر فتتجنب الحديث عن سنها في منتصف الثلاثين، ثم تبدأ رحلة الكذب الطويلة عند بلوغها سن الأربعين ! .

قبل نحو عامين احتفلت (أوبرا وينفري) ببلوغها سن الخمسين مع رفيقها و أصدقاءها و جمهورها العريض على الهواء مباشرة و تحدثت بسعادة عن ما أنجزته خلال سنوات عمرها الخمسين، ثمَّ تطرقت إلى الحديث عن ما تحلم بتحقيقه في السنوات القادمة .

لقد كانت (أوبرا) في ذلك اليوم سعيدة متألقة تبدو بصحة جيدة و مزاج جيد لا يعكس إحباطاً أو خوفاً أو قلقاً من أي نوع .
هل كانت أوبرا سعيدة فعلاً أم أنها كانت فقط تتظاهر بذلك ؟! .

قد تحتاج الإجابة الدقيقة الواثقة على مثل هذه الأسئلة أن ننتظر تعاقب السنوات علينا، و قد لا تحتاج كل هذا الوقت إذا أقلعت النساء المثقفات عن الصمت تواطئاً مع هذا الخوف التاريخي !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - صحيفة الرأى العام - 2007

شـرور صغيرة !


أعترف اليوم بخطأ إحدى نظرياتي التي كنت أسعى جاهدةً - طوال الوقت - لإثباتها، لقد حيَّرني (بنو آدم) بطبائعهم الغريبة و أطفئوا حماسي لفلسفة شرورهم ! .
فقد كنت دوماً أقول بأن الغربة كالماء المالح تعمل على تكوين طبقة (كِلْسيَّه) فوق معادن الناس بمرور الزمن، و بأن هنالك علاقة طردية بين (سُمك) تلك الطبقة و قوة شخصية المغترب و بالتالي قوة مقدرته على اجتياز امتحان الغربة دون أن تطمُس بمرارتِها طبائعه الأصيلة ! .

أما زوجي فله نظرية أخرى - يتقاطع مفهومها مع نظريتي تلك - مفادها : أن الغربة كالنار تُذيب البريق الزائف عن معادن الناس فتُظهر حقيقتهم الكامنة خلف الأقنعة ! .

كنت دوماً أقول له - مازحةً - بأنه سيأتي يوم نخوض فيه تجربة مشتركة تثبت صحة نظريتي و خطأ نظريته، إلى أن جاءتنا تلك التجربة تمشي على قدمين ! .

أحد أولئك الذين يقول عنهم زوجي بأن (نيران) الغربة قد أظهرت حقيقتهم المؤسفة كان جاراً لأحد أصدقاءنا، و على الرغم من أن العلاقة لم تكن تتجاوز السلام و السؤال عن الحال فقد ألحق بنا ذلك الرجل الكثير من الأذى، ما جعل زوجي يتخذه مثالاً لإثبات نظريته تلك .
و عندما كان يذكر ذلك كنت أقول له بأن ذلك (الشر) الذي يظهر في سلوك الرجل ما هو إلا (تكلُّس) مؤقت السبب فيه مرارة الغربة (و كدا) ! .

إلى أن جاء يوم أخبرني فيه بعد عودته من العمل بأن ذلك الرجل - الذي كان (شديد البخل) - قد زاره في المستشفى و رجاه أن يساعده في عمل فحوصات مجانية لوالدته المريضة و من ثم مساعدته في صرف علاج مجاني لها ! .
و لأن بيتنا يقع بالقرب من المستشفى ستمكُث والدته و زوجته عندنا لحين ظهور النتائج .
كانت الجلسة كمحاضر الشرطة، والدته تلقي بالسؤال و تتلقَّف إجاباتي لتصنع منها سؤالاً جديداً بينما ظلت الزوجة صامتةً كالأسماك تدوِّن ذلك الحوار في ذاكرتها حتى تقوم بإذاعته في إحدى الجلسات النسائية عما قريب كعادتها ! ..
و هما تعاملان بعضهما بنفور حيَّرني كثيراً ! .

كانت الأم ترمقني بنظراتٍ فاحصة سَمِجة - جعلتني أزداد قناعة بموضوعية سارتر عندما وصف الآخرين بأنهم جحيم ! – قبل أن تقول بلهجة ذات مغزى :
- بس أوعِي راجلك دا يقوم يجيب أمُّـو ! ..
- و ليه (أوعَي) يا خالة ؟! .. يا ريت هي ترضى تجي .. نحن لاقينها وين ؟! ..
- بري .. أحسن ما تجي تقوم تضايقكم ساكت ! ..
- لا .. لا .. ما بتضايقنا .. على العكس تشرّفنا و تونِّسنا ! ..

انتهى المحضر بانتهاء الزيارة بعد أن يئست هي من الإيقاع بي ! .
و ما أن عاد زوجي إلى البيت مساءاً حتى صاح قائلاً و هو يضحك :
- عارفة أمُّو قالت لي شنو ؟! ..
- أها ؟! ..
- قالت لي المرة دي ما تقوم تنسِّيك أمَّك .. أعمل حسابك .. جيب أمَّك تتونس معاك ! ..

و عندما أخبرته بما نصحتني به في هذا الصَّدد قال و هو يضحك بظفر :
- اعترفي إنو نظريتك أثبتت فشلها .. الشَّر بتاع الزول دا وراثة .. لا غُربة .. لا تَكلُّس ! ..
- على العموم دي شرور صغيرة .. الله يكفينا الشرور الكبيرة !..
- اعترفي ! ..
- طيِّب اعترفت ! ..

ها أنا ذي أعترف بخطأ نظريَّتي । فالزبون و المدير و الزوج دوماً على حق !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - جريدة الرأى العام - 2007


أول صفعــة !

يقولون أن ثَمة علاقة بين تأخر الفطام و الذكاء , أمي - لأنها أمي - تؤمِّن على هذا بذات القدر من الحماسة في كل مرة , فقط لتروي لهم ضاحكةً كيف أفلتُ ثديها , و انزلقتُ من حجرها بسرعةٍ خاطفة قبل أن أستوي على البلاط , و أنا أرمق بحنقٍ بالغ خالي الذي كان يقول بأن الرضاعة لأمثالي من " الفتوات " الكبيرات حرام " الله بدخلك النار " । و كيف ركضتُ إلى باب " برندة " بيت جدي , ثم وقفتُ في منتصف " الحوش " عارية القدمين , باحثةً عن الله الذي ظننته لن يراني تحت سقف " البرندة " , قبل أن أرفع ذراعيَّ إلى السماء , قائلة في غضبٍ طفولي : " برضع برضع يا الله " ! । عندما أقول للناس بأنني لا زلتُ أذكر يوم فطامي بوضوح , يُصابون بالدهشة , ثم يتضاحكون في تكذيبٍ مُهذَّب । لكنِّي أذكر ذلك اليوم جيداً ! । يومها وضعَتْ أمي على ثديها قليلاً من "العجين المُر" لتجبرني على كراهية حليبها اللذيذ । لا تزال أمي تضحك بدهشة متجددة كلما ذكرتها بهذا ! . أما الذي يدهشني أنا فتضاحك الناس و تكذيبهم المهذب . فإلى جانب كون فطامي قد تحقق بعد لأي , و في سن متأخرة , حيث كنت أرضع ثم آكل الطعام و أمشي في الأسواق , بل و " أتفاصح " قبل أو في أثناء طقوس الرضاعة . و قد كنت أتخذُ من ثوب أمي غطاءاً أحمي به خصوصيتي من أعيُن الفضوليات المتظارفات من خالاتٍ و جارات , و إن بقيت صيحاتُهن المُنكِرة تَصِلُ إلىّ غير منقوصة , مخترقةً بسماجَتِها دِرْعِي القُماشي الواهي ! . كيف أنسى تلك الساعات التي ملأتُها بصُراخي و شَهَقاتي , و اختلط فيها مِلْحُ دموعي بالعجين المُر ؟! . ثم , كيف لا يذكر المرء أول صفعة في مشوار الحياة ؟! . كيف ينسى أول احتكاك حقيقي مع فكرة الإدراك لمعنى الممكن و المتاح , و المفروض المهيمن علينا و إن لم نقبل به ؟! . و المرغوب الذي قد لا نلقى إليه سبيلاً ؟! , و أن ما يرام قد لا يكون متاحاً , و أن المتاح المبذول هو في الغالب على غير ما يرام ؟! . حتى اليوم لا زلتُ أذكر ساعات فطامي , و حتى اللحظة لا شئ يعدلُ لذة الرضاعة عندي سوى روعة القراءة , و لا شئ يُماهي ذلك التَلمُّظ الماهل بعد رضعةٍ مُشبِعَة إلا تَلمُّظ العقل بعد قراءة نَصٍ جَيِّد ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيلولة - صحيفة الرأى العام - 2007

حالة كون المرء زول ساكت


أمران أضحكاني – في هذه الأجازة – حَـد القهقهة و أمعنْتُ في السخرية منهُما على تلك الطريقة المحليَّة في السخرية من شَطحات المغتربين اللفظيَّة و السُلوكيَّة أيام زمان ! . (أوَّلهُما) أغنية من أغاني (البنات) تحمل مفردات غريبة المعاني , يتَخلَّلُها سؤال دائم شديد الإلحاح على نحو " كدا كيف " ؟! و إجابة متكررة على غرار " مبالغة " ! , و عندما سألتُ صديقاتي - من بين دموعي التي سَالتْ من فرط الضحك - عن اسم المغنِّية , صفعَتني الإجابة التي وجدتُها تستوجب دمعاً من نوع آخر : " دي ما بت , دا ولد " ! . الدمع الذي عنيتُه من المفترض أن يسكبُه (ذووه) و ليس أنا بالطبع ! .

أما (ثاني) الأمرين فتلك النَّزعة (الطبقيَّة) المستحدثة في تقييم أصحاب شرائح الهواتف المحمولة , فهم ينقسمون بحسب هذا (العُرف) الصَّارم إلى فئات تتراوح بين : " شخصيات هامة " و " ناس ساكت " ! . إذ يبدو أن لعنة " البوبار " قد حلّت على الشعب السوداني و تمكنت منه إلى حد تقديم نوع الشريحة على مقدار الخبز و ملائمة الكساء و غير ذلك من أولويات الحياة . فلا يهم أن تكون جائعا أو شبعاناً بقدر ما يهم أن تحمل شريحة محترمة تُجنِّبُك اضطهاد المُستقبِِل لرقم هاتفك على الطرف الآخر ! . و قد أدركتُ هذا عندما اشتريت حال وصولي إلى الخرطوم شريحة (موبايل) بمبلغ زهيد و بها القليل من الرصيد , و قد استبشرت بهذه الصفقة الرابحة التي تخدم أمثالي من القادمين إلى البلد لفترات مؤقتة و لا يحتاجون إلى استخدام هذا النوع من الشرائح لأكثر من شهر أو اثنين , لكنِّي فوجئت بظاهرة في منتهى الغرابة تتمثل في عدم الترحيب بالمكالمات الواردة من هذا النوع من الشرائح , فشكوتُ إلى إحدى صديقاتي من عدم رد الناس على مكالماتي , بل و عدم محاولتهم معاودة الاتصال بعد ذلك . فقالت بهدوء " بكونوا فاكرينك زولة ساكت " ! . و عندما أعربت عن استنكاري لمثل هذا التصنيف المُخِلْ تناولت هاتفها و قامت بالاتصال بذات الرقم الذي لم أجد منه أي رد و هي تقول بثقة " أنا نمرتي (v I p) , عشان كدا ح يردوا طوالي " ! . و بالفعل أتى الرد بسرعة مُحيِّرة . عندها قالت صديقتي و هي تضحك : " كدا كيف ؟! " . أجبتُها بسخطٍ عظيم : " مبالغة " ! .

Monday 18 June 2007

أبجديات القبول (2) ...ثقافة التفَّة و بدلة العرس !


إذا كنت حريصاً على قبول الآخر لفكرة كونك شخصاً جيداً و جديراً , فينبغي أن تضع في الحسبان أبجدياته التي ينطلق منها في تقييمه إياك , و أعرافه التي يتكئ عليها في الحكم بقبولك أو رفضك . أنت تحتاج إلى اجتياز هذا الأمر بنجاح , و لن يحدث ذلك ألا وفقاً للمقاييس التي ينظر إليك من خلالها هذا الآخر . أما إذا قررت أن تعيش مع نفسك و لأجلها فقط فأنت لست معنياً بالحديث التالي , القائل بأن معايير النفور و القَبول ما عادت بالملامح و التقاطيع . أي أنها ما عادت بخلقة الجسد , بل بقبح أو جاذبية ما يُلبس على هذا الجسد , و بما تعكسه طبيعة الاختيار لتلك الأزياء من رُقِى أو فساد في الذوق . هكذا – و بهذا المفهوم - أنصفت حضارة العصر الحديث الكثيرين منَّا على نحوٍ ما ! . و لأن قصة الإنسان ما عادت مجرد رحلة بحث عن الطعام فقد أصبحت أناقة الإطلالة من الضروريات , بل و بات الاشتغال بها نوعاً رفيعاً من أنواع الفن . فقد تكون الأناقة ترف من منظور الذي لا يملك سوى قوت يومه , أو قد تكون كذلك من زاوية الذي لن يُضار أو يُحرَج آخرون - يُمثِّلهم هو في محفلٍ ما - من عدم توافرها عنده . هذا و غيره وراد في شأن العامَّـة . أما نساء و رجالات " العمل السياسي العام " فلا خيار لهم في ذلك . لأن حسن الهندام هو واجبهم الذي لا يقل أهمية عن الحرص على أعراف و بروتوكولات المجتمع الدولي , و هو أيضاً حقنا كشعب يُمثِّلونه و يحكم الناس عليه من خلالهم . بلى , أناقة الساسة في كافة المحافل و المناسبات هي حقنا الخالص و الذي لا يتفضلون به علينا ! . فأي مسئول في هذه الدولة هو موظف لدي حكومتها التي تُمثِّل شعبها , و أي معارض لتلك الحكومة هو موظف بدوره لدى " إدارة الكيان السياسي " التي تُمِّثل المنتمين إلى ذلكم الكيان من أفراد الشعب . كل الساسة موظفون على نحو ما . و التأنق في الملبس و المسلك من واجبات هذه الوظيفة شاءوا ذلك أم أبوا . إذ لا بد أن يراعي الشخص " المارق " في سبيل العمل العام أبجديات الأناقة العالمية ليس في ملبسه فقط , بل و في جسده أيضاً . و عليه فلا يحق لأي مسئول يمثلنا طوعاً أو كرهاً أن يظهر في المحافل بشعرٍ أشعث أغبر , أو أن يرسل " تفَّتـه " إلى عنان السماء و بمنتهى الاطمئنان كمن ترجَّل لتوه عن " آلة زمن " استقلها منذ سبعينيات القرن الماضي . و إن هو عمد إلى تشذيبها فلا بد أن يحصُل ذلك بعد استشارة مصفف شعر ماهر و مُجدِّد وفقاً لمعايير الحلاقة العالمية تشذيباً و تمشيطاً و تلميعاً ! . أي و الله كل هذا ضروري و لا يظنن بي أحد الشطط ! . و من يرى بغير ما أرى فهو مُترجِّل بدوره من آلة الزمن إياها ! . ليس من حق أي مسئول أن يرتدي من الأثواب ما يشاء وفقاً لمعاييره الخاصة , اللهم إلا داخل الأبواب المغلقة التي لا تستطيع عدسات المصورين الفضولية إليها سبيلاً , أما في أثناء أدائه لوظيفته السياسية أياً كانت فليس من حقه أن يخرج علينا بمظهر العريس السوداني الشعبي ! . فإلى عهد ليس ببعيد ظل العريس النمطي عندنا يلبس البذلة مضطراً لا بطلاً في يوم زفافه . لذا فخياره محدود , فإما أن يقترض واحدة من عريس سابق , أو يشتري واحدة يراعي في مقاسها أن تناسب حجم شقيقه أو صاحبه الذي قد يتزوج بعد بضع سنوات ! . كلا , بذلة المسئول التي تخاط خصيصاً لأجله من أجود أنواع القماش لا ينبغي أن تحيد عن مقاسه قيد أنمله . و لا بد أن تكون جميلة و أنيقة و متناسقة تخطف قبول الآخر و تسرق استحسانه ما أن تقع عينه عليها . و قبل أن يشرع هو في إحراز القَبول على نحو آخر بالحديث المنمق و المنطق السياسي المقنع . ثم أن هنالك ما يسمى بتناسق الهندام الذي يجعل المسئول بمأمن عن خطر فساد الذوق في حال ميله إلى الظهور بالملابس الشعبية المحلية . فالأناقة ليست قصراً على فكرة البذلة القيافة و ربطة العنق المنمقة و الدليل على زعمي هذا أن الساسة في حكومة الجنوب و على الرغم من ميلهم إلى اللمسات المحلية هم الأكثر أناقة ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرأي العام - يونيو - 2007 م

Thursday 31 May 2007

أبجديات القبول (1) ... و هؤلاء من يُصلح حالَهم يا " رورو " ؟ !


كلُّ حركة في هذا الكون إذا وُظِّفَتْ في مكانها الصحيح تُؤتي أكُلَها حتماً , و إن هي حدثَتْ بلا داعٍ تُصنّف ضرباً من العَتَه , أو أنها – في أفضل الأحوال – قد توحي بذلك . كسيدة من بلاد " القوقاز " مثلاً , إذا ما قمتُ بفتح جهاز التلفاز فرأيتُ – على شاشته - شخصا يهزُّ رجله على نحوٍ قَلِق , و هو إلى جانب هذا يتحدث مُقطِّباً , سأجزم على الفور بأنه إما مجنون أو على تخوم العته ! . عندها لن يجدي - في حكمي عليه - كونه يشرح نظرية "البروسترويكا" و عظيم تأثيرها على الاقتصاد الروسي الذي يدخل في دائرة اهتمامي كوني سيدة قوقازية ! . و عليه فـإن هَـزَّ الأرجل كحركة بشرية قد يؤتي أُكُلَه مع الخياطين فيصنعون بإيقاع الهز على الماكينات أثواباً أنيقة , و مع النسَّاجين فيخرجون علينا بمنسوجات عالية الجودة , أما في حال السَّاسة من رؤساء و وزراء و مدراء و سفراء , أولئك الذين اختاروا أن يكونوا " في الواجهة " أو على " الخط الساخن " جُلَّ أوقاتهم , فإن الهز كحركة بشرية يصبح من قبيل ما ذكرنا آنفاً ! . قال تعالى : " في ظلال على الأرائك متكئون " , أي أن الاتكاء - و قد يدخل في مضمونه الاضطجاع أو الرقاد كأفعال بشرية مريحة و ماتعة - هو مما كافأ به الله عباده المؤمنين في الجنة , و لو كان الاتكاء من الأمور العادية التي درجنا على تكرارها بمناسبة و بغيرها , و في أي محفل , و على أي وجه , لما اعتُبِر ذلك من نعيم الجنة ! . أقول هذا لأن الاضطجاع و الاتكاء أو حتى الرقاد على الكراسي مَسلكٌ يتَفنّن ساستُنا فيه بمهارة لا تخلو من طرافة ,فهم وحدهم الذين يتململون و يتقلبون فوقها في معظم المحافل و المؤتمرات, بل أن منهم من يتخذ أوضاعاً جانبية شديدة التعقيد تفوق الجلوس على الكراسي - بظهور معتدلة - صعوبةً . هذا مع التنوع في كيفية ارتماء جانب الوجه على باطن أحد الكفين . و لا يهم إن كان ذلك في قاعة الصداقة , أو الألبرت هول , أو حتى البيت الأبيض ! . و حتى يُعطَي اجتهادي هذا القدر الذي يستحقه من افتراض الأهمية و الخطورة , أقول بأن معظم المفكرين و دعاة الإصلاح قد أرجعوا الكثير من المشكلات القومية في بلادهم , و التي كان لها تأثير ظاهر على إنتاج شعوبهم و مكانتها و فرادتها الإقليمية إلى طبائع الفرد . فقد حدد "ماكس فريش" حسن النية اللامبالي الذي رمز له بـ " البنزين " كسبب تقتل الإنسانية به نفسها , كما خَلُص "ديرنمات" إلى أن الحياد الأناني - الذي يرمز له باللون الرمادي – هو مشكلة الشعب السويسري حيث أودى به إلى الجمود و العزلة . في الوقت الذي لخَّص فيه "فانس باكار" مشكلة الشعب الأمريكي في تحول أفراده إلى مستهلكين و بالتالي ضحايا لوسائل الإعلام حيث تقوم الشركات باستخدام الإذاعة و التلفاز للترويج للسلع التي رمز لها بـ " السيارات " . و عليه إذا ما حاولنا تشييء تلك المشاكل في صورة أيقونات نجعل منها رموزاً لها بحسب فلسفات هؤلاء المفكرين فـ يمكننا أن نقول بالآتي : مشكلة الإنسانية رمزها جالون بنزين , و مشكلة أمريكا رمزها سيارة , و مشكلة سويسرا رمزها بقعة لون رمادي . بينما مشكلة السودان – في تقديري – رمزها سرير ! . و ما الدول و شعوبها إلا شخصيات اعتبارية تتألف من أفراد تُشكِّل جاذبيتهم أو عدمها الملامح العامة لعوامل الجذب أو الإخفاق السياسي . و لعل هذا هو السر في كاريزما " لبنان" كدولة , أو السر في ذلك التكالب العربي المُنبَهر عليها, فما أن تتَهدّم مبانيها بفعل مسلسل الحرب الأهلية حتى يهرع الجميع إلى التبرع بميزانية قُطر لإعادة تعميرها ! . "رورو" صديقتي اللبنانية ناقشت معي - ذات ونسة - كيف أن صناعة السّاسة في لبنان - كما في معظم دول العالم - صناعة نجوم . ماذا تلبس و كيف تجلس و تأكل و تتحدث ؟ . كيف تتغلب على الحرَج ؟ . كيف تكون مقنعاً و متى تصبح مُفحِماً ؟ . كيف تَتبسَّم على نحو مدروس و كيف تتظاهر بالقلق أو الحزن إذا لزم الأمر ؟! . " ما في مجال للغَلََط ! " هكذا هتَفتْ "رورو" مع تعطيش الجيم و هي ترمُق من طرف خفي - أحد ساسة دولة السودان المنبطح على الكرسي في أثناء حوار كانت تَبثـُّه إحدى القنوات العربية ذائعة الصيت ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الرأى العام - يونيو - 2007 م