Thursday 1 November 2007

المتهمة البريئة


من المشاهد المطرزة في قماش ذاكرتي حتى الآن و التي لا زلت أبتسم كلما ذكرتها منظر جارتنا و هي تلتهم الطعام في المطبخ و في نهار رمضان المبصر ! .
كانت جارتنا تلك تلتهم الطعام بسرعة و هي تتلفت يمنة و يسرة كاللصوص بينما وقفتُ أرقبها بدهشة كبيرة لبعض الوقت قبل أن أخاطبها قائلةً باحتقار طفولي و يداي ممدودتان بصينية الكنافة :

- ماما رسلت ليكم الأكلة دي ! ..
- يا سلاااام شكرا ليك يا منوية ..

و بينما كنت أنظر بفضول إلى الفتات المُتبقِّي في صحن طعامها المخبأ خلف قدور الطعام قدَّمتْ إلىّ لوحاً من (الشوكولاتة) قاومتُ إغراءه بصعوبة قبل أن أرفضه بأدب قائلةً بلهجة طفولية ذات مغزى :

- شكراً يا خالتو أنا صايمة ! ..

لا زلت أذكر كيف قطعتُ المسافة التي تفصل بين مطبخ بيتهم و مطبخ بيتنا - حيث كانت أمي منهمكة في إعداد الإفطار - ركضاً، و كيف وصلت لاهثةً مبهورة الأنفاس و أنا أفكر بحزن .
يا للهول جارتنا (الحيطة بالحيطة) و أم صديقتي الأثيرة و شريكتي الدائمة في اللعب تأكل في نهار رمضان ؟! . و عندما سألتني أمي عن نتيجة المهمة التي أرسلتني لإنجازها أخبرتها باقتضاب عن فراغي منها، و لم أخبرها بما رأيت .

كنت منهكة من الجوع و العطش فجلست أتفرج على أفلام الكرتون و شيئان لا يفارقان ذاكرتي منظر جارتنا تلك و هي تلتهم الطعام في الخفاء و لوح الشوكولاتة اللذيذ إلى اضطررت إلى الاعتذار عن قبوله لأجل الصوم ! .

- الصوم .. الصوم .. الصوم الذي يقطعه الكبار بالتهام الطعام سرا ! ... هكذا كنت أفكر .. و لست أدري لماذا اخترت السكوت لحظتها و لم أخبر أمي بما رأيت من جارتنا تلك في حينه .

على مائدة الإفطار كانت أمي تثني على صبرنا أخي و أنا على الصوم رغم حرارة الجو، شعرت بالزهو و الفخر الشديد و كدت أن أفشي سر جارتنا ربما لأثبت أننا أفضل من بعض الكبار طلباً لمزيد من الثناء لكن شيئاً ما جعلني أختار الصمت مرة أخرى .

في المساء و قبل أن أذهب إلى النوم أذعت سري الصغير على مسامع أمي، و فوجئت بها تبتسم و هي تخبرني بأن جارتنا تلك مريضة و قد أمرها الطبيب بعدم الصوم لعدة أيام حتى تتمكن من تناول بعض العلاج، و بأنِّه ليس من التهذيب أن يتهم الصغار الناس بارتكاب أفعال خاطئة قبل أن يستمعوا إلى تفسير الكبار .
سألتها بإلحاح : كيف تكون مريضة و لا يبدو عليها التعب ؟! .. ثم كيف تكون مريضة و لا تعرف ابنتها التي تلعب معي طوال الوقت بأن أمها مريضة ؟! ..
فقالت أمي بأنها لا تريد أن تخبرهم بمرضها حتى لا تثير قلقهم ! .

بعد حديث أمي عادت جارتنا تلك إلى مكانها الأثير في نفسي بعد أن كادت أن تغادره إلى مكان آخر لا وجود فيه للكبار المحترمين و الأعزاء ! .

لو قالت أمي يومها بأن للنساء أياماً في شهر رمضان يفطرن فيها بأمر الله لوفرت على كثير من السنوات قضيتها قبل أن أعرف نوع المرض الذي أصاب جارتنا ! .
أعتقد بأن الأمهات مدينات لأطفالهن بتهيئة نفسية مناسبة لمثل هذه المواقف المُربكة فقد يرى أحد الأطفال أمه في موقف مشابه ثم لا يجد من يفسر له ذلك !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


No comments: