Wednesday 30 May 2007

" كشف الحال " على طريقة ديرنمات

مفتونة أنا بفكرة " ضعف البشر " , تستوقفني كثيراً و طويلاً مقدراتهم القاصرة في شئون الاحتمال و التجُّمل . تلك النصوص التي تُفنِّد القبح الكامن وراء الأقنعة المبذولة اتقاءاً لفضول الآخرين , الُمفتَرَض , و الشرير بدوره , لطالما خلبت لُبِّي . تلك المُناخات الفنِّية التي تُمَنطِق فكرة "السقوط" و تَسوق لها الحجج , كم هَزَّني – و لا يزال – جلالها ! . حين يكون " سقوط النفس " - المُبرَّر وفقاً لمقتضيات فنِّية - قرارا لا نُكوص عنه , و لا مجال لترميم عواقبه . أن تخون , أو تكذب , أن تَسرق , أو تَجبُن , أن تُؤثر نفسك على الأقربين بمرارة القانع بانعدام الخيار ! . أو أن لا تفعل , أن لا تكون , و ما قد يتحقق إن فعلت , و ما قد لا يحدث إن أنت أنِفْتَ عن أن تفعل ! . معيار الضياع , و ميزان الوصول , و كيف و لمـَه يتفاوت البشر الخطاءون في هذه الأحكام بقوانين الواقع , و كم أنهم لا يخضعون لذات " التحكيم " بفلسفة الفن الأخَّاذة الحَادِبة - العَادلة بعد كُلِّ هذا على وجهٍ ما - ! . يا لفتنة هذا الضعف الذي أغرى الكثيرين بالوقوف عنده تفنيدا , تحليلاً , و تصويرا . و من وقفات الفن التي على هذا النحو فلسفة " فريدريش ديرنمات " اللطيفة في تعرية الشَّـر المختبئ في نفوس أبطال مسرحياته , و اللائذ بالأقنعة لحين ظهور " تجسيم " الضمير الذي يُمزِّقُها , فَيُظْهِر - بالتضاد بين صورته الظاهرة و صورتِهَا التي أظهرها وجودُه ! – الشر الكامن خلفها . هكذا دوماً تتكشف حقائق الشر عند " ديرنمات " , إذ تعول فكرته تلك في نهوضها على مواجهات صارمة بين أبطاله , فتُعرِّي – بذلك - عَفَن طويَّة الإنسان أمام ذاته قبل الآخرين . يتحقق هذا المعنى عنده بطرائق متنوعة , أما الذي لا يتغير فهو إصراره على أن تجئ تلك التعرية في تلافيف حدث دراماتيكي ! . لقد ظل " ديرنمات " يمضغ هذا المعنى و يتلمَّظ بعدها , راضياً عنه , مستحسناً له , في كثير من كتاباته . و حُقَّ له . إذ يكسوه في كل مرةٍ ثوبا قشيباً . في مسرحيتة " زيارة السيدة العجوز " كان البَّقال يَرقُب أهل قريته و هم يحفرون قبره بحماس يزكيه إغراء أموال السيدة الثرية التي كانت تنشد الإنتقام منه بتحفيزهم على قتله , لكنها ما لبثتْ أن عفَتْ عنه , تاركةً إياه حيَّاً بين ظهراني من حكموا عليه بالموت , و تاركةً إياهم يعيشون مع عار فعلتهم أمام عيني من كادوا يقتلونه لأجل المال . " عندما سئل " ديرنمات " عما ترمز إليه العجوز الثرية في هذا النص , أجاب بأنها ضعف البشر أمام المال , ذلك الضعف الذي يُحيله الطمع المتفاقم إلى شر خالص " . و في مسرحيته " هبط الملاك في بابل " تَبعثُ السماء بفتاة جميلة , تكون هدية لأفقر رجل في بابل , تلك الفتاة لم تكن من نصيب أحد , إذ رفض الجميع التخلي عن أموالهم للفوز بها , فالكل يريدها و يريد المال , و قد رفضتهم هي لقصورهم عن شرطها , فتركتهم بذلك يكابدون خسارتها التي تُمثِّل حقيقة جشعهم للمال . و في مسرحيته " الشهاب " يقوم من مَوتَتِه الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل , و الذي أَعلنتْ الإذاعات و الصحف نبأ وفاته , فيُصاب بالهَلَع أولئك الذين في موته " كرامتُهم ", و في عودته إلى الحياة " كشف حالهم " , و أوَّلُهم الطبيب الذي أعلن وفاته ! . أما في حكاياتنا المحلية فهنالك طرفة تشبه نصه الساخر هذا على نحو مدهش ,و هي تتبنَّى ذات التوظيف الفني للفلسفة " الديرنماتية " إياها ! . كون البعث من الموت – أو على الأقل عدم تَحقُّقه – أمرٌ جَلَل من رؤية مفادها أن فيه إراقةٌ لكرامة بعضهم , و كون الموت ـ أو المضي فيه كخيار ـ هو الحل الأمثل لحفظها . إذ يُفضِّل أهل الميت الذي اتضح أنه حي - لمَّا يَمُتْ بعد - المُضي في التظاهر بموته خوفاً من "شيل الحال " , فيقبُرونه حياً لئلا يقال بأنهم لا يعرفون الموت ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيـــلولة - 2007 م



No comments: