Wednesday, 21 November 2007

نحن لسنا الأفضل

في إحدى مقالاته القديمة الجديدة يخبرنا أستاذنا (أنيس منصور) كيف أنَّ بعضهم قد قال يوماً مخاطباً (العقَّاد) في معرض حديثه عن أحد أساتذة الفلسفة : (إن هذا الرجل قد عاش في فرنسا عشر سنوات لذا فهو يفهم العقليَّة و الفلسفة الفرنسية أكثر من غيره )، فـ وَضَعَ (العقاد) يده على (جزمته) قائلاً : (لو صحَّ أن إنساناً يفهم الفرنسيين لأنَّه عاشرهم لصحَّ أن جزمتي هذه تفهم في الفلسفة و الأدب بحكم معاشرتها إياي أكثر من أي أستاذ في الجامعة) !

و بصرف النظر عن سماجة التشبيه إلا أن (العقاد) معه حق، فهو يعترض بطريقته الخاصة على بعض المفاهيم الجاهزة المتأصلة في عقول بعض الناس رغم افتقارها إلى المنطق و رغم تكذيب الواقع لها .

و الحقيقة أن الكثير من المُسلَّمات التي تملأ عقول (ناسنا) و يغلقون عليها بالضبَّة و المفتاح و يستحضرونها في كل مناسبة دونما تفكير في حقيقتها تدخل في قبيل اعتراض (العقاد) آنف الذكر، و من تلك المسلَّمات (أنَّنا الأفضل دوماً و الغير أقل درجة )، و هذا ما يردده الذين يتحدثون عن أفضلية المناهج الدراسية السودانية على غيرها من مناهج الدول العربية الأخرى .

هذه القناعة ترتبت عليها مأساة (خصم النِّسب) المستمرة التي جعلت من ذهاب الأبناء إلى الجامعات مشكلة تقض مضجع المغتربين على الرغم من كونها قائمة على (وهم) لا أكثر !

فـ لا نحن الأفضل و لا هم يحزنون، و العرب الذين نغترب في بلادهم ليسوا كما نظن، و مناهجهم الدراسية قوية و دسمة، و هي قد قطعت شوطا مقدرا في الوصول إلى معايير المنهج الدراسي المثالي، بينما لا نريد نحن المتقهقرون أن نفيق من هذا الوهم .

عندما كنتُ أدرس القانون في جامعة الخرطوم لاحظتُ مع كثيرين بخيبة أمل كيف أن مواضيع مطلوبات الجامعة كاللغة العربية و الإنجليزية و التربية الإسلامية مكررة و مضجرة بالنسبة للقادمين من بلاد المناهج التي يفترض بأنها أقل (نمواً) !

فـ من علم العروض الذي تبحَّرنا فيه بتوسع في الصف الثاني الثانوي إلى تفاصيل في قواعد اللغة الانجليزية مكررة عندنا جديدة على غيرنا . و من المعلومات الدينية التي تعتبر مبادئ لا أكثر مقارنة بما نعرفه في التجويد و الفقه و الحديث و التفسير إلى أمثلة كثيرة مشابهة يذكرها زملاؤنا في الكليات العملية عن الرياضيات و الأحياء و الهندسة .. إلخ ..

الطريف هو أننا أيضاً قد صدقنا تلك الأكذوبة التي كان يرددها الزملاء من (ناس) الشهادة السودانية في وقته، و أصبحنا نتعامل على أساسها .

و من المواقف الطريفة التي ترتَّبت على مثل هذه القناعات و كان زملاؤنا في كلية القانون ينسِبُونها إلى أحد الأساتذة و الذي اشتهر بين الطلبة بردوده اللاذعة : أنَّ مجموعة من (البرالمة) من حمَلَة الشهادات العربيَّة قد ذهبوا إليه يطلبون تفعيل خيار الإجابة باللغة العربية في امتحان إحدى المواد التي كانت تُدرَّس باللغة الانجليزية، و عندما أخبرهم بأنه لن يتم استثناؤهم من بقية زملاءهم انبرى أحدهم قائلاً فيما معناه بأن زملاءهم (ناس) الشهادة السودانية (ذاتهم) يطالبون بتفعيل هذا الخيار . فقال الأستاذ : (خلاص جيبوا لي زول من ناس الشهادة السودانية يقول لي الكلام دا) .

و عندما أتوا بـ (الزول) الذي كان يعاملهم بـ (فوقية أكاديميَّة) على أساس الأكذوبة إياها سأله الدكتور: (إنتَ جبت كم في الانجليزي في امتحان الشهادة السودانية ) ؟! . فذكر ذلك (الزول) درجة هزيلة تقف على أعتاب النجاح بصعوبة و هي إلى السقوط أقرب، عندها التفت الأستاذ إلى ذلك الطالب الذي تعهَّد بإحضار من يثبت صحة زعمه قائلاً في صرامة :

- يا أخي أنا قلت ليك جيب لي زول !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق- الرأى العام - 2007

Wednesday, 14 November 2007

الهويَّة التلفزيونيَّة

يقول بعض علماء اللغة المختصين بتعريب المصطلحات بأن كلمة (رائي) والتي هي الترجمة العربية الفصيحة لكلمة(television) غير موفقة لأنها تترجم فقط كلمة (vision) أي أنها تترجم جزءاً من المصطلح، بينما من الأفضل إكساب الكلمة نفسها وزناً من أوزان العربية، فالأصح أن نقول (تلفاز)

و يقولون أيضاً بأن كلمة (تلفزيون) مقحمة على اللغة و هي صيغة لم تسمع بها العرب قديماً أو حديثاً . كل هذا جميل، لكنِّي لا زلتُ أفضِّل استخدام كلمة (تلفزيون) في حديثي بعد أن (قَشَرت) - لك عزيزي القارئ - بالمعلومة أعلاه !

و عليه فقد كانت تغطية (التلفزيونات) المحليَّة لأحداث (حرب الخليج الأولى) من المنعطفات الثقافية الفارقة في حياتي لأنها جعلتني أرى - رأي العين - خطورة دور الإعلام المرئي كأداة حشد و تعبئة جماهيرية باهرة النتائج .

وجودي في منطقة الخليج العربي إبان اندلاع الحرب جعلني أتشبع بالنسخة السعودية للتغطية الإعلامية لـ (الغزو العراقي للكويت و تداعياته)، ثم ذهبت مع أسرتي لقضاء أجازتنا في السودان فتشبعتُ ثانيةً بالنسخة السودانية للتغطية الإعلامية لـ (الاحتلال الأمريكي للكويت و السعودية) !

كان هذا عندما كانت للقنوات المحليَّة (شنَّة و رنَّة) و قبل أن
تتسلَّم القنوات الفضائية مقاليد السلطة الإعلاميَّة في تشكيل الوعي السياسي للمُشاهد، ثم تهيمن بدلال على أولوياته في خيارات (الريموت كنترول) .

إنما ظل التلفزيون المحلِّي يلعب دوره بذات القدر من الخطورة في مضمار آخر هو تقديم صورة لهويَّة البلد التي يحمل شعارها .

و إذا كانت الهويَّة التلفزيوينة للبلد تعني تقديم بانوراما اجتماعية لشعبها فهذا الأمر يعني أن يعكس التلفزيون السوداني خصوصية و ثراء الجغرافيا الثقافية و العرقية عندنا، من (الهدندوة) و الـ (بني عامر) و (الحلنقة) و (الرشايدة) و (الشكرية) و (البطاحين) و (الفونج) و (العنج) و (الفلاتة) و (الدينكا) و (النوير) و (الشلك) و (الزاندي) و (الحمر) و (الزغاوة) و (القرعان) و (الفور) و الـ (بني هلبة) و (التعايشة) .. إلخ ..
هذا بالإضافة إلى قبائل الشمال و الوسط التي كان التلفزيون السوداني و لا يزال يمثِّلها خير تمثيل !

فـ لا يكفي أن تعكس بعض القنوات السودانية الخاصة جانباً هزيلاً من هذا كل هذا التنوع الثري، و لا يكفي أن يظهر كل هذا في لمحات باهتة ُمقحمة في صور درامية شحيحة . كما أنه لا يكفي أن يكون هذا التنوع في نوعية البرامج وحدها بل يجب ان يشمل المذيعين أيضاً .. نعَم المذيعون !

ما الذي يجعل القائمين على أمر قناة بعراقة الـ بي . بي . سي يصرون على وجود الملامح الشرق آسيوية و العربية و العرب أفريقية و الهندية و الأوربية بين وجوه مذيعيها سوى ضرورة تقديم صورة تعكس التنوع العرقي و الثقافي و الاجتماعي في بريطانيا ؟ .

أتساءل ببراءة : لماذا كل هذا التشبث المُزري بالهوية العربية في التمثيل الإعلامي المرئي لهذا البلد المسمى السودان على الرغم من تفرُّده الثقافي و خصوصيته التراثية ؟! .

و هل يُقدِّم تلفزيون السودان (بانوراما) صادقة لتنوع جذور و ثقافات و تراث هذا البلد ؟ أعتقد بأننا يجب أن نحسم أمر هويتَّنا السياسية قبل أن نطالب بتصحيح هويتنا التلفزيونية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرأى العام - هناك فرق -2007

Thursday, 1 November 2007

لعنة محليَّــة


رحلة الطبيب السوداني (النَّمَطي) تبدأ غالباً منذ الصِّغر و بتشجيع من أفراد المجتمع المحيط و أولهم أسرته، فما أن تبدو على الطفل إمارات الذكاء حتى يسارع بعض المتحمسين إلى التنبؤ بأنه سيصبح في المستقبل (دكتور كبير) !

و ما أن يُلقي أي ضيف يعبر (صالون) بيتهم يوماً بذلك السؤال التقليدي عما يود أن يكونه الطفل الذي يتنطط حوله في المستقبل
حتى تخرج الإجابة النموذجيَّة (الجاهزة) من بين الأسنان اللَّبنية نصف المهشمة :

- دكتور !

بعدها يختار طفل الأمس الذي أصبح مراهق اليوم كلية الطب فيهرع أفراد عائلته إلى مناداته بـ ( يا دكتور) و يطلبون منه بفرح طفولي أن (يقيس ليهم الضغط) و هو لا يزال (برلوم مفعوص) .. ثم تمضي السنوات و يتخرج (البرلوم) فيفرحون فرحاً عظيماً مبالغاً فيه !

طائعاً أو مرغماً يقوم ذلك الطبيب اليافع بتخزين ذلك التهليل و (التكبير) في خلايا مخه الرمادية و يجد نفسه يقوم باستحضاره دونما وعي منه و هو يسير مزهوا بمعطفه الأبيض !

و بعد أن ينهي رحلة التخصُّص قد يقضي سنوات طويلة من حياته في الخارج ( أوربا .. أمريكا .. إلخ ..) قبل أن يعود ليجلس على ذلك الكرسي الأنيق في إحدى العيادات ذات التذاكر الفادحة الثمن !

هنا .. و هنا فقط .. تظهر الحقيقة الموجعة التي تقول بأن (الكثير) من هؤلاء الأطباء الذين يمشون على (الصراط المستقيم) أينما كانوا في الخارج ما أن تطأ أقدامهم أرض (الوطن) حتى يطوحون بالدقة و النظام و التمسك الصارم بالواجبات و بحقوق المريض القانونية و الأخلاقية إلى أقرب (سَهَلَة) ثم يتحولون بقدرة قادر إلى أشخاص عشوائيين حد الاستهتار بأجساد البشر التي كرمها الله !

و بينما يدلل الكثير من هؤلاء الأطباء الكبار مرضاهم في الخارج و يراعون بدقة متناهية أبسط حقوقهم خوفاً من المساءلة الأخلاقية و قوانين المسئولية التقصيرية و قضايا التعويضات ينقسم المرضى المحليون بحسب رؤية بعض هؤلاء الأطباء فيما يختص بكيفية (المعاملة) في غرف الكشف إلى ثلاث فئات ..

- مرضى جهلة و أميون و (ناس الله) و هؤلاء لا يستحقون عناء الشرح و الإيضاح لانعدام النديَّة الفكرية و الاجتماعية !

- أنصاف المتعلمين الذين يكثرون من الاستماع إلى برامج الراديو ويستخدمون كلمات على غرار (أفتكر) و (في الحقيقة) و هؤلاء يجب قمعهم بتوجيه الكلام بـ صيغة الأمر و المقاطعة الصارمة لشكواهم المطولة و الردود (المسيخة) على تساؤلاتهم المملة !

- المتعلمين (جامعي فما فوق) و هؤلاء - بدورهم - ينقسمون إلى (أ) و (ب)

- (أ) و هم فئة المرضى من أصحاب المهن و التخصصات الأخرى (عدا مهنة الطب) و هؤلاء يتظارفون كثيراً و (يرفعون الكلفة لشعورهم بالنديَّة الأكاديمية و الفكرية و يستخدمون كلمات بالإنجليزية على غرار (بيشنت) و (أنتي بايوتيك) و (أنتي هيستامين) و (أنتي أسيد) و هؤلاء يجب إيقاف تبسطهم و انشراحهم بالنظرات الباردة و الجمل الحاسمة القاطعة و ذلك حتى لا تسول لهم أنفسهم السؤال عن أمر آخر غير (روشتة) الدواء !

- (ب) و هم فئة زملاء المهنة و هؤلاء يجب التعامل معهم بقدر معقول من (الود المتعالي) و هو مزيج من الترحيب و (الأنفة) المهنية التي تلعب نفس الدور الذي يمكن أن تؤديه جملة ( إنت هنا "بيشنت" زيك زي غيرك) !

و هكذا .. تستمر معاناة المواطن بكل فئاته : المطحون و المجروش و الموازي و الأفضل حالاً مع صلَف و استهتار وعشوائية كثير من الدكاترة الكبار الذين (لا) تصيبهم لعنة العشوائية (إلا) داخل الحدود الإقليمية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007

مشوار الصواب


دوماً أقول عن حياة الساسة الحقيقيين - و (حقيقيُّون) هنا تعني الساسة المحترفون و ليس الهواة ! - بأنها رحلة الأقنعة القابلة للتبدُّل بسرعة الضوء، و بأنها أيضاً مشوار (الصَّواب) الدائم الذي لا مجال فيه للتَظارُف المُطلق في مواقف التَبَسُّم المدروس, و لا سبيل معه إلى الارتجال في مواضع التفْنيد .

و قد انتهت في الأسبوع الماضي إحدى قصص مشاوير الصواب الدائم تلك بانتهاء علاقة زوجية نصفها الخشن سياسي مثير للجدل هو رئيس جمهورية فرنسا (نيكولا ساركوزي) و نصفها الناعم سيدة فرنسا الأولى . و كم أراح إعلان خبر الطلاق الذي أتى بعد خمسة أشهر من وصول (ساركوزي) إلى الرئاسة ملايين الأعناق التي ظلت مشرئبةً نحو نوافذ و أبواب قصر (الاليزيه) المواربة على خلافات قديمة متجددة تأجل البت فيها لحين انتهاء (موال) الانتخابات .

بإعلان هذا الخبر تأكدت صحة الكثير من الشائعات التي ظلت تتردد طويلاً بسبب غياب (سيسيليا) عن الكثير من الأحداث الهامة في حياة زوجها السياسية برغم حرصهما معاً على المضي قُدماً في مشوار الصواب الدائم إياه و الذي هو قدر البائسين الذي يختارون طريق السياسة بكل (نتوءاته) و انبعاجاته القاسية .

على كل حال لا ينبغي أن نعول كثيراً على تلك اللوحات الاجتماعية لمشاهير السياسة و الفن و المرسومة بدقة الحسابات الفيثاغورسية، أو على تلك المواقف العلنية المُشذَّبة بعناية و التي تثير الغيظ أكثر من كونها تبعث على الإعجاب، بل يجب أن نولي ثقتنا أكثر إلى الصور الاجتماعية التي تبدو أقل اكتمالاً و أكثر واقعية .

لماذا ؟! .. لأنه لا بدَّ من بعض (الشتارة) أحيانا لتبدو المواقف واقعية ! . لا بد من بعض النقص و الارتباك لتكون الصورة إنسانية و ليس سينمائية . لذا أعتقد بأن زوجة (أوباما) مرشح الرئاسة الأمريكي الإفريقي الأصل و التي انتقد الجميع صراحتها في الحديث بشأن انصراف زوجها عن الحياة الأسرية إلى حياة السياسة أعتقد بأنها لم تخطئ و بأن تلك (الشتارة) من جانبها قد أعطت بعداً واقعياً لشخصية المرشح الذي ينتظر الكثيرون أن يحقق الفوز .

لكن هذا لا يعني وجوب افتراض علاقة عكسية بين المثالية أو الطموح إلى الكمال و الواقعية بقدر ما يعني أن الواقعية هي أن تكون حقيقياً على طبيعتك، و معنى أن تكون على طبيعتك أن تكون بشراً تخطئ مرة و تصيب مرات .. لا أن تكون مصيباً على الدوام .

أذكر أن إحدى المجلات ذائعة الصيت قد نشرت قبل بضع سنوات تحقيقاً مضماره أوساط و شرائح مختلفة و متفاوتة من النساء العربيات، يمكن تلخيص نتيجته الرئيسية في الجملة الطريفة الآتية : (الزوجات الأكثر أناقة هن الأكثر تعاسة ) .. لذا يبدو أن سيدة فرنسا الأولى قد سئمت إخفاء أحزانها خلف أناقتها الفادحة ! .

و إن كانت خلافات (سيسيليا) و (ساركوزي) قد أحدثت بعض الخدوش الطفيفة في اللوحة الاجتماعية التي يفترض أن تكون مصقولة مئة في المئة و على مدار الساعة فهذا يعني - على الأقل - بأنهما لا يزالان إنسانين و بأنهما لم يتحولا بعد إلى آلتين تعملان بوقود السياسة ! .

من ينكر حقيقة أن الصورة السينمائية شيء و الصورة الواقعية شيء آخر ؟! . و أن الأولى هي ما يجب أن نكون عليه بينما الثانية هي ما نحن عليه فعلاً ! .
حتى أطباء الأسنان يُصنِّفون عمليات تبييضها في عياداتهم إلى درجات أقصاها درجة (الابتسامة التلفزيونية ) أو البياض الناصع شديد اللمعان بينما درجة البياض الطبيعية لأسنان الإنسان هي اللون (البيج) و ليس الأبيض الناصع .

إذا سلَّمنا بأننا بشر خطاءون .. فأين المشكلة في أن يختار الناس مرشحاً رئاسياً بحسب (ما هو عليه) لا بحسب (ما ينبغي) أن يكون عليه ؟! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك رفق - الرأى العام - 2007

المتهمة البريئة


من المشاهد المطرزة في قماش ذاكرتي حتى الآن و التي لا زلت أبتسم كلما ذكرتها منظر جارتنا و هي تلتهم الطعام في المطبخ و في نهار رمضان المبصر ! .
كانت جارتنا تلك تلتهم الطعام بسرعة و هي تتلفت يمنة و يسرة كاللصوص بينما وقفتُ أرقبها بدهشة كبيرة لبعض الوقت قبل أن أخاطبها قائلةً باحتقار طفولي و يداي ممدودتان بصينية الكنافة :

- ماما رسلت ليكم الأكلة دي ! ..
- يا سلاااام شكرا ليك يا منوية ..

و بينما كنت أنظر بفضول إلى الفتات المُتبقِّي في صحن طعامها المخبأ خلف قدور الطعام قدَّمتْ إلىّ لوحاً من (الشوكولاتة) قاومتُ إغراءه بصعوبة قبل أن أرفضه بأدب قائلةً بلهجة طفولية ذات مغزى :

- شكراً يا خالتو أنا صايمة ! ..

لا زلت أذكر كيف قطعتُ المسافة التي تفصل بين مطبخ بيتهم و مطبخ بيتنا - حيث كانت أمي منهمكة في إعداد الإفطار - ركضاً، و كيف وصلت لاهثةً مبهورة الأنفاس و أنا أفكر بحزن .
يا للهول جارتنا (الحيطة بالحيطة) و أم صديقتي الأثيرة و شريكتي الدائمة في اللعب تأكل في نهار رمضان ؟! . و عندما سألتني أمي عن نتيجة المهمة التي أرسلتني لإنجازها أخبرتها باقتضاب عن فراغي منها، و لم أخبرها بما رأيت .

كنت منهكة من الجوع و العطش فجلست أتفرج على أفلام الكرتون و شيئان لا يفارقان ذاكرتي منظر جارتنا تلك و هي تلتهم الطعام في الخفاء و لوح الشوكولاتة اللذيذ إلى اضطررت إلى الاعتذار عن قبوله لأجل الصوم ! .

- الصوم .. الصوم .. الصوم الذي يقطعه الكبار بالتهام الطعام سرا ! ... هكذا كنت أفكر .. و لست أدري لماذا اخترت السكوت لحظتها و لم أخبر أمي بما رأيت من جارتنا تلك في حينه .

على مائدة الإفطار كانت أمي تثني على صبرنا أخي و أنا على الصوم رغم حرارة الجو، شعرت بالزهو و الفخر الشديد و كدت أن أفشي سر جارتنا ربما لأثبت أننا أفضل من بعض الكبار طلباً لمزيد من الثناء لكن شيئاً ما جعلني أختار الصمت مرة أخرى .

في المساء و قبل أن أذهب إلى النوم أذعت سري الصغير على مسامع أمي، و فوجئت بها تبتسم و هي تخبرني بأن جارتنا تلك مريضة و قد أمرها الطبيب بعدم الصوم لعدة أيام حتى تتمكن من تناول بعض العلاج، و بأنِّه ليس من التهذيب أن يتهم الصغار الناس بارتكاب أفعال خاطئة قبل أن يستمعوا إلى تفسير الكبار .
سألتها بإلحاح : كيف تكون مريضة و لا يبدو عليها التعب ؟! .. ثم كيف تكون مريضة و لا تعرف ابنتها التي تلعب معي طوال الوقت بأن أمها مريضة ؟! ..
فقالت أمي بأنها لا تريد أن تخبرهم بمرضها حتى لا تثير قلقهم ! .

بعد حديث أمي عادت جارتنا تلك إلى مكانها الأثير في نفسي بعد أن كادت أن تغادره إلى مكان آخر لا وجود فيه للكبار المحترمين و الأعزاء ! .

لو قالت أمي يومها بأن للنساء أياماً في شهر رمضان يفطرن فيها بأمر الله لوفرت على كثير من السنوات قضيتها قبل أن أعرف نوع المرض الذي أصاب جارتنا ! .
أعتقد بأن الأمهات مدينات لأطفالهن بتهيئة نفسية مناسبة لمثل هذه المواقف المُربكة فقد يرى أحد الأطفال أمه في موقف مشابه ثم لا يجد من يفسر له ذلك !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007


مناخ المنطقة الوسطى

إذا رأيتم رجلاً يعامل امرأة بفتور أو عدائية بعد أن كان يهش و يبش في وجهها فتأكدوا من أنها قد "ضربته على أم رأسه" باتخاذها موقفاً احتجاجياً من تجاوزه للمسموح و محاولته اختراق حاجز الرصانة و الاحترام الذي لا بد أن يظل قائماً بين أي رجل و أية امرأة لا تربطهما صلة قربى أو زواج

و ما بين رصانة العلاقة الرسمية و ابتذال التجاوزات الخارجة توجد منطقة وسطى "مهمشة" و غير "مأهولة" بالكثيرين على الرغم من غناها بالموارد الطبيعية هي منطقة الصداقة "النظيفة" بين الجنسين .

هذه الصداقات تعوِّل في نهوضها على النِّدية الفكرية أو الأكاديمية لذا فهي غالباً ما تنشأ بين المثقفين و المثقفات، و نجاحها يكون مرهوناً بثبات الظروف المناخية التي تصاحب نشوءها و تساعد في نموها

في الغالب تصل المرأة المثقفة الواعية إلى هذه المنطقة الوسطى بسهولة و يسر و ثقة كبيرة بالذات و بالصديق بينما يتعثَّر الرجل و يتباطأ قبل أن يتمكن من الوصول إليها سالماً و بعد قدر وافر من المماحكة و التلكؤ

الرجل المثقف الذي يزعم أنه يجيد التفريق بين "النساء" و "الحريم" لا يرضى بأن يكون أقل من فارس الأحلام في حياة الأنثى التي يراها متميزة و جديرة باحترامه و مودته، و قد لا تسعفه كل الكتب و النظريات و النصوص المتحررة التي شرب مضامينها و اقتبس من نورها إذا كان هذا النِّد الفكري أو الثقافي أو الأكاديمي امرأة بها مسحة من جمال

فما أن يلحظ بعض هؤلاء مسحة الجمال تلك حتى يطوحون بالموضوعية و التجرد إلى أقرب نهر ثم ينتقلون بآلة الزمن إلى العصر الحجري أو إلى الطور الأول في نظرية داروين - لست أدري بالضبط - كل ما أدريه أنهم يتقهقرون على نحو مؤسف، فتعاني "بت الناس" المثقفة من الخجل و الإحباط و الحزن جراء نوبات التبسم الهستيري و التصريحات الشخصية و الإيحاءات غير

بينما يعيش البعض الذي يُغلِّب بصعوبة بالغة النزاهة و الموضوعية على ذلك الإغراء - المتمثل في ركوب آلة الزمن إلى العصر الحجري - في مكابدة حقيقية من تغيُّرات الجو بعد انتقالهم إلى مناخ مغاير لما اعتادوا و نشئوا عليه من موروثات تبرز على السطح عند أول اختبار حقيقي لأبجدياتهم و مسلماتهم في التعامل مع المرأة

فيشكون انخفاض درجة الحرارة في تلك المنطقة، و يصابون بالرشح و الزكام و الحمى ثم يواصلون التذمر و التأفف سراً دون أن يجرؤ أحدهم على البوح بذلك حتى لا يعلن رسوبه في اختبار الصداقة، ذلك الرسوب الذي قد ينفي ذيوعه الكثير من الادعاءات التي يرددونها طوال الوقت

قد يعتاد هذا البعض على تلك الأجواء بعد أن يدب اليأس في قلبه من احتمال أن يكون هو "شهريار" تلك "الشهرزاد" الذكية و من ثبات تلك الأجواء المعتدلة التي لا تعتريها غيوم أو عواصف من أي نوع

قلة قليلة جداً من بين كل هؤلاء و أولئك هم الذين يعرفون ماذا يريدون بالضبط من أنفسهم و من غيرهم، هؤلاء ينتقلون بمحض إرادتهم و بمنتهى اليسر إلى تلك "المنطقة الوسطى" و ينعمون بهوائها العليل النظيف


بينما يعيش المثقفون الأدعياء مع ازدواجية المعايير و لسان حالهم يردد ما كان يقوله أحد المدرسين من زملاء والدي – حاج أبو زيد - عن زميلاته قبل ثلاثة عقود من الزمان، فقد كان ذلك (الزميل) يقول عندما يقابل بعض المدرسات في أماكن أخرى غير المدرسة ثم يجد صعوبة في التعرف عليهن

يا أخواننا ديل حريم و لا مُدرِّسات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك فرق - الرأى العام - 2007م